البحث العلمي في سوريا .. العثور على إبرة المعلومات في كومة تعتيم
مرتبة سوريّة متأخرة في البيانات المفتوحة .. ومعظم الوزارات لا تتيح إحصاءاتها
يصطدم الباحث في “سوريا” بعد أن يحدد إشكالية بحثه بمعضلة نقص موارد المعلومات واضطراب الإحصاءات ما يجعل مهمة البحث صعبة على أفضل عالم لا يمكنه توظيف معرفته العلمية دون أن تتوفر البيانات الواقعية بين يديه.
سناك سوري _ هادي مياسة
مكتب الإحصاء يحصي أخطاءه
وفي “سوريا” فإنّ المصدر شبه الوحيد لهذه البيانات هو المكتب المركزي للإحصاء. كونه المخول بإجراء المسوحات وجمع البيانات المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن مدير المكتب “عدنان حميدان” قال في تصريح لجريدة الوطن قبل أقل من شهرين أنه كان هناك فوضى في الأرقام التي كانت تصدر عن المكتب.
تحتل سوريا المرتبة 187 من أصل 195 دولة ضمن ترتيب الدول حسب توفيرها لمعايير البيانات المفتوحة موقع odin
ويوجد توجه عالمي جديد مدعوم من مختلف مؤسسات “الأمم المتحدة” يسمى بالبيانات الحكومية المفتوحة. أي توفير البيانات الإحصائية على شبكة الإنترنت بأقصى درجات الشمول والشفافية وسهولة الوصول. ومن بين أهداف كثيرة لهذه المبادرة، نلحظ أهداف تعزيز الابتكار وتحفيز البحث العلمي وزيادة التفاعل الحكومي والأكاديمي.
ووفق ترتيب ODIN للدول (2022/23) حسب توفيرها لمعايير البيانات المفتوحة. حققت “سوريا” متوسط 21٪ من نقاط التقييم الإجمالي (23٪ للشمول و 19٪ للانفتاح وإتاحة البيانات). محتلة بذلك المرتبة 187 عالمياً من أصل 195 دولة ضمن التصنيف. والمرتبة ما قبل الأخيرة عربياً متفوقة فقط على دولة جنوب السودان “السودان وجزر القمر خارج الترتيب”.
في حين احتلت الإمارات العربية المتحدة المرتبة الأولى عربياً بمتوسط 80٪ (12 عالمياً) تليها سلطنة عمان 74٪ (19 عالمياً) ومن ثم فلسطين 71٪ (26 عالمياً). وتربعت “سنغافورة” على قمة الترتيب العالمي 90٪ وتليها بولندا والدنمارك بمتوسط 87٪ لكل منهما.
وهذا التوجه يواكب التطور التقني لتعزيز الحق بالحصول على المعلومة بيسر. كما أنه يفتح الباب أمام الباحثين الذين يعانون إعاقات تمنعهم من حرية الحركة للانخراط في العمل العلمي بشكل أكبر.
الوزارات المنغلقة لا توفر البيانات المفتوحة
لا تحتوي معظم المواقع الإلكترونية للوزارات السورية تبويباً للإحصائيات. وفي موقعي وزارتي “الداخلية” و“التجارة الداخلية وحماية المستهلك” التبويب موجود ولكنه فارغ من أية بيانات.
وأما وزارة الصحة فإحصائياتها حديثة وأسبوعية ولكنها مقتصرة على إصابات الشلل الرخو الحاد، إضافةً إلى تقارير ربعية عن توزع المشافي واختصاصاتها وعدد الأسرّة. والتعليم العالي إحصائياتها متوقفة عند عام 2016. ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية تتوقف بياناتها عند عام 2008. وانفردت وزارة الزراعة عن البقية بأنّ موقعها يوفر كتاب الخطة الزراعية سنوياً والذي يحتوي على بيانات وإحصاءات متنوعة وتتسم بدرجة من الشمول.
مديريات البحث العلمي بواجهة محبِطة
وهذه الفجوة بين العمل الأكاديمي والحكومي تستدعي أن تعمل مديريات البحث العلمي في الجامعات على حث الوزارات والهيئات الحكومية على معالجة الفجوة وردمها. خصوصاً وأنّ هذه المديريات تُجمِع في معرض التعريف عن نفسها على أنّ من أبرز مهامها تأمين مستلزمات البحث العلمي.
ولكن عند النظر إلى الصورة الإلكترونية لهذه المديريات. نجد أنها مقصِّرة هي نفسها تجاه الباحثين، وذلك في توفير الوصول إلى رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه السورية.
فمعظم الأبحاث في المكتبة الرقمية لمديرية البحث العلمي التابعة لجامعة دمشق غير مزودة بروابط تحميل، والعديد من الروابط القليلة المتوفرة لا يعمل. وبالنسبة لزميلتها في جامعة البعث فيبدو أنّ كل الأبحاث مزودة بروابط، وقد جرت تجربة تحميل أول عشرة رسائل ماجستير لكلية الصيدلة وأول خمسة لكلية الهندسة المعلوماتية، وتمّ الاكتفاء بهذه العينة حيث لم يعمل أي رابط.
وبالنسبة لمديريات البحث العلمي في جامعات حلب وتشرين والفرات، فلا تتوفر مكتبة رقمية من الأساس. وعند مراجعة قاعدة بيانات رسائل الماجستير والدكتوراه في موقع وزارة التعليم العالي. لمعرفة إن كان تقصير المديريات السابقة مبرراَ بسبب وجود البديل الشامل. كان عدد الأبحاث لا يوحي بالشمول والمواكبة المستمرة، وبعض روابط التحميل لا تعمل أيضاً.
وتجدر الإشارة إلى أنّ توفير قاعدة بيانات للأبحاث الاكاديمية مسألة مهمة للباحثين. لأنّ كل بحث علمي يفرض على الباحث ذكر وتحليل الدراسات السابقة المشابهة والقريبة من مجال بحثه.
إذا كانت الجهات التي يفترض أنها تدعم الباحثين وتعمل على توفير حاجاتهم ومستلزمات عملهم. وتمثل صلة وصلهم مع الحكومة. مقصرة بحقهم بأشياء بديهية وسهلة وغير مكلفة. فكيف يمكن التفاؤل بأنها ستعمل على ردم الهوة بين العمل الأكاديمي والعمل الحكومي؟ سناك سوري
توفير البيانات لا تمنعه الحرب والحصار
وكذلك فإنّ هذه المسألة، على أهميتها، سهلة التوفير ولا تصلح معها حجج الحرب والأوضاع الاقتصادية التي تتكرر في مجالات التقصير الأخرى. فكل الطلاب الأكاديميين ملزمون بتقديم نسخ إلكترونية لأبحاثهم إلى جانب النسخ الورقية. وبذلك لا يتبقى أمام المعنيين إلا رفع وإضافة هذه النسخ إلى المواقع الإلكترونية للجامعات.
وهنا نتساءل، إذا كانت الجهات التي يفترض أنها تدعم الباحثين وتعمل على توفير حاجاتهم ومستلزمات عملهم. وتمثل صلة وصلهم مع الحكومة. مقصرة بحقهم بأشياء بديهية وسهلة وغير مكلفة. فكيف يمكن التفاؤل بأنها ستعمل على ردم الهوة بين العمل الأكاديمي والعمل الحكومي؟ وأنها ستعمل على تحقيق انفتاح وطني بإتاحة البيانات لازدهار العمل العلمي إلى جانب الفوائد التنموية والإدارية التي يحققها؟.
أثر صعوبة البحث العلمي على الشباب
دخلب جامعة “دمشق” في شباط الماضي تصنيف “الراوند” العالمي للمرة الأولى في تاريخها. وهو تصنيف يعتمد على البحث العلمي كلياً واقتصر دخولها على اختصاصي “علوم الحياة” و”العلوم الإنسانية”. ما يشير بوضوح إلى ضعف المراجع في باقي الاختصاصات وبقية الجامعات السورية التي لم تدخل التصنيف أصلاً. ويظهر الصعوبة التي يلاقيها الشباب السوري في عمليات البحث العلمي وحتى الوصول إلى الأبحاث والاستناد إليها. الأمر الذي يؤثر على مستقبلهم العلمي وحتى فرص وصولهم إلى الجامعات العالمية.
بالإضافة إلى أن هذه الصعوبات تقف حائلاً أمام الشباب السوري لتقديم حلقات بحث أو رسائل ماجستير بمستوىً جيد. مع غياب المراجع وتأثيره على المعرفة والارتباط بالحداثة البحثية العالمية. فضلاً عن عدم القدرة على توظيف البيانات والأرقام الحكومية في الدراسات البحثية نظراً لشحّ هذه المصادر. ما يؤدي من جهة أخرى إلى تكرار واستنساخ أبحاث سابقة لعدم توفر البيئة البحثية المتطورة باستمرار.
بينما يضطر الطلاب والباحثون إلى اللجوء لمصادر ومراجع أجنبية حين يبحثون عن معلومة أو رقم يخصّ بلادهم لغياب مراجع باللغة العربية أو مصادر حكومية رسمية للمعلومات. علماً أن المراجع الأجنبية غالباً ما تكون مشكوك بصحتها لأن قدرتها على الوصول للمعلومات من داخل البلاد وحيادها تجاه موضوع البحث أيضاً موضع شك.
وهذه المشكلات تنضم إلى جانب العديد من المشكلات الأخرى التي يعاني منها الطلاب والباحثين في الجامعات السورية، إدارياً ومادياً وحياتياً. وإذا كانت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية تعاني من مثل هذه المسائل البسيطة نظرياً. فما هو حال الباحثين في العلوم التطبيقية والتقنية الذين قد تتطلب أبحاثهم معدات ومختبرات حديثة وباهظة الثمن؟.