الاسم – الإثم …. أدونيس
سناك سوري
طيورٌ مهاجرةٌ كأنّها تجيء من لا مكان، تريد خصوصاً أن تحيّيَ النّوافذ في شوارعَ شبهِ طائشة. شوارعُ لها عمرُ التّاريخ، وتبدو كأنّها في سنّ المراهقة.
كتبٌ وأوراقٌ، كمثل أغصانٍ نصفِ ذابلة، تجرّها ريحٌ خفيفةٌ تصعد وتهبط على سلالِم اللحظات.
هكذا تلبس بيروتُ كلَّ يومٍ، ثياباً خاصّةً وترقص، أملاً بأن يُرجَأَ الوقتُ الذي سيُقال فيه:
تلك هي نهاية العرب.
رقصٌ يبتكر الواقع، ويوسّع حدودَ الأفق.
يكذِّب اللغةَ، وينافس الأجنحة.
رقصُ نساءٍ يربطنَ النّجوم بجدائلهنّ.
رقصُ رجالٍ لا مكانَ لهم غير العين الباطنة التي تعرف كيف ترى،
وكيف تومىء وتعشق.
* غالباً، كان فضاءُ بيروت يبتكر بحيراتٍ وشطآناً
وحدائق، لكي يستقبل المُريدين.
يهيّئ لهم طرقاً لاصطياد كواكبَ تملك حاسّةً خاصّةً
لاكتشافِ عِطرِ الدّنيا.
يغريهم بالسّير إلى القمر وما بعده في أصدافٍ
أشرفَ هو نفسُه على تربيتها.
* الهيكلُ العظميُّ الذي يُنسَبُ إلى جسم القرن الحادي والعشرين،
واسعُ الحلَقات في بيروت، ضيِّقُ الفقرات في غيرها – (نيويورك مثلاً).
يتّكىء رأسُ هذا الهيكل على كتف الماضي، وإن كان الحاضرُ يوحي بما يناقض ذلك.
الشّائع أنّ جسمه مريضٌ، تسيل شفتاه دماً، عندما تنطقان.
يؤكّد ذلك مِزمارٌ لغويٌّ لكتابٍ آخر في فنّ الطّبخ، يصف بدقّةٍ كيف يُطبَخُ الجرح وكيف يُخبَزُ الهواء.
* قال الوقتُ المُحيطُ، وتلك هي فاصلةٌ خاصّة:
« اقرأوا، معي أو ضدّي،هذا الطِّلَّسْمَ:
أن نحيا هو، أوّلاً، أن نموت.
أن نموتَ هو، أوّلاً، أن نُميت».
* كيف يتجلّى جدلُ الاسم / الإثم في هذا الطّلّسْم ؟
العودة إلى الماضي «عقيدةٌ». وهي إذاً عودةٌ إلى «الأصول»:
إلى الاسم- القبيلة، العشيرة، العائلة… خارجَ «التّاريخ»، تقدُّماً،
وتغيُّراً. ومعنى ذلك أنّها عودةٌ سُلطَويّةٌ بقوّة السّلطة القائمة.
«الأصول»، أو ما يُسَمّى كذلك يتمُّ اتّباعُها، عفواً أو غَصْباً.
لكن ما هذه «الأصول»؟
كلٌّ «يعرفها» نقلاً عن غيره. وهو «غيرٌ» ينقلها تبعاً لمستوى تفكيره، وصدقه. ناسياً أنّ المهمّ ليس أن «ننقل»، بل كيف ننقل، و «ماذا» ننقل؟
ـ خصوصاً عندما تكون وحدةُ «الأمّة» أو «الجماعة» هي الهدف الأوّل، وقبل أيّ شيء.
ـ هكذا يتجلّى جدلُ الاسم/ الإثم في تآويلَ وانشقاقاتٍ، في صراعاتٍ دامية، في عنفٍ مُتواصل، بأشكاله الخفيّة والظّاهرة، في مختلف الميادين، وعلى جميع المستويات.
* هكذا تؤرِّخ نيويورك، تضامناً، لأيّام بيروت:
تضامنٌ يعشق الصّورَ الفوتوغرافيّة التي تتبقّع بدم العصر.
يعشق العصرَ مستلقياً، ينزف تعباً بين أقدام
طُغاةٍ لا يعرفون أن يتهجّوا أسماءهم.
تضامُنٌ يؤجِّج نيرانَ الثّورات التي تقودها السّلاسل، تلك التي تمنع
الاتّكاءَ حتى على الحلم.
بيروت، اسألي، إذاً، هذه «الصّديقة الغالية» نيويورك:
أين حقيقةُ الهواء، مثلاً؟
أهي في اسمه، أم في جسمه؟
أهي في سكونه، أم هبوبه ؟
أهي في وظيفته؟
ما كانت؟ ماهي؟ ما ستكون؟
ألهذا، إذاً، لا تزال الكلمات التي أحببتُها لكِ وبكِ،
تضعُ على شفاهها، اليوم، حمرةً خاصّةً اسمُها الصّمت؟
وكيف تُقطَفُ وردةُ المخيِّلة بيد الواقع؟
وكيف تُقطَفُ وردةُ الواقع بيد المُخيِّلة ؟
* بيروت،
منذ أن رسمتُ باسمِكِ لنيويورك في السنة 1971 ذلك القبرَ
الذي بدأ يرسم العالمَ، اليوم، أتساءل: لماذا يزداد حبّي لكِ، فيما تتصارعُ تخومُكِ داخلَ جغرافية أحشائي؟
وما أعمقَ همسَكِ الذي يهبطُ عليَّ كلَّ يومٍ، في هيئة نجمةٍ
تكادُ أن تنطفىء، فيما لا يزال رأسي غادِياً رائحاً بين ثدييها.
كلامٌ أكتبه في نيويورك، 3 أيار 2017، متذَكِّراً شجرةَ الضّوء الأولى
في قصّابين، تلك التي رافَقَتْني في طريقي إلى بيروت، أوكتوبر 1956.
مُتَذَكِّراً، أيضاً، الشّكلَ الأوّلَ لسؤالي الأوّل:
أيّتها القصيدة، هل سيبقى ليَ حظٌّ عندك، يتيح لي أن أتموّج بين رياحكِ، وأطرحَ أسئلتي الكثيرةَ الأخرى،
عن اللانهايات التي تتملمَلُ سجينةً في الحياة والواقع، في الكتب التي لا تجدُ مَن يُجيد قراءتها، عن الصّور التي لا يتمرأى فيها غيرُ الذين لا يرَوْنَ وجوهَهم،
عن أولئك الذين يملكون آلاف المرايا، ولا وجهَ لهم،
عن صافرةٍ تحوّلت إلى بلبل،
وعن قُبَّعةٍ صارت شمساً.
لكن ها هو الحلمُ يغضبُ قائلاً:
لماذا لا تتركُ دفتراً آخرَ لمثل هذه الأسئلة،
في برعُمِ وردةٍ،
بين يَدَي طفلٍ،
على عتَبَةِ الأبجديّة ؟
*
الحلم ؟
لكن ها هو الوقتُ في بيروت – نيويورك، يغضبُ هو أيضاً، صارِخاً:
كلُّ شيءٍ صنيعةٌ لكلّ شيء،
القمرُ، سابِحاً في قنّينةِ كولا،
الشّاي، مُنحَدِراً من أعالٍ كوريّةٍ مروراً بشنغهاي وكيوتو.
التّرابُ لابِساً عباءةَ الضّباب.
أهي الحربُ في خُوَذٍ من الذّهب؟
أهو الحفْلُ الضّخمُ الذي يرقص فيه المَذبوحون وحدهم؟
أوه كيف أحرِّرُ داخِلي من المَقابِر التي تتشرّدُ في أنحائه؟
الدّمُ يختلِطُ بالدّم،
الحروبُ تمدُّ أنقاضَها سجّاداً،
والطّفولةُ شيخوخةٌ في المَهد.
* نعَم، بسببٍ منكِ، نيويورك،
سأقولُ لشاطىءِ بيروت:
الْبَسْني أيّها الجموحُ، خُذْني أيُّها الجامِح.
وسأصغي إليك، تؤكِّد من جديد:
لا تنسَ،
معظَمُ الطُّغاة، لكي يتذوّقوا طعمَ المعرفة
يفضّلون أن يأكلوا ألسنةَ العارفين.
لا تنسَ،
الحقيقةُ هناك، هنالك، هنا
زهرةُ لبلابٍ
تُقطَفُ السّبتَ، وتُباعُ الأحد،
وتُقبَرُ الجمعة.
ما أشدَّ بؤسَ التاريخ.
* أهناك إمكانٌ لخلقِ طينٍ آخر- تكويناً ومعرفةً؟
ألِيَ، شخصيّاً، توجِّهين هذا السّؤال؟
وماذا تفعلين، أنتِ نيويورك، إذاً، بذلك النّورس الذي ينتظر موجةً
تعرِضُ عليه الزّواج؟
أو بذلك الحوت الذي يريد أن يكتبَ تاريخاً آخرَ لجوناس؟
أو بذلك الرّأس السّماويّ الذي وُضِع في صحنٍ
وقُدِّمَ إلى غانية؟
ولماذا تسألين تمثالَكِ الذي أطلَقْتِ عليه
اسماً عظيماً
أصبَحَ إثْماً عظيماً؟
* من دائرةٍ شِبهِ مُغلَقَةٍ، يرسمها جَدَلُ الاسم- الإثم،
أخرُجُ حاملاً تاريخاً يترنّح كمثل قمَرٍ نصفِ مكسور.
تُرافِقُني أشباحٌ في أشكال نجومٍ ورايات،
وها هي بيروتُ- البحر،
دَهرٌ معجونٌ بعطرٍ يتخاصَمُ فيه المتوسِّطُ وصنّين،
وينامان في سريره، على وسادةٍ واحدة:
بيروت الذّروة العالية، حيث نسيَتِ الشّمسُ مِنديلَها الأوّل الذي جاءها هديّةً أولى من البحر.
الحياة – أدونيس