الاحتلال والتطبيع.. البقاء المرهون بالتناقضات- حسان يونس
التحول الذي تضمن سقوط آشور وصعود بابل ومن خلفها ميديا ومن ثم فارس الأخمينية.
سناك سوري- حسان يونس
منذ ما يقرب المئة عام، والشرق الأوسط، والعالم بنسبة ما، ينبض على وقع نشوء كيان الاحتلال”إسرائيل” ونموها ونضجها وقيامتها، واليوم تتداعي بعض الكيانات الخليجية لإعلان التطبيع -الحاصل منذ عقود- مع “إسرائيل”، كجزء من هذا المسار المخطط لإعلان “قيامة إسرائيل”.
لكن، بعيدا عن “إسرائيل” الخزرية الماثلة أمامنا، والتي تعود أصول أغلب سكانها إلى منطقة الخزر الممتدة بين بحري قزوين والأسود، وفقا للمفكر المصري “جمال حمدان” في كتاب “اليهود أنثروبولوجيا”، ووفقا للكاتب الألماني المجري آرثر كيستلر، في كتابه “القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم”، بعيدا عن “إسرائيل” هذه، هناك “إسرائيل” أخرى، يتحدث عنها المؤرّخ فراس السواح في كتابه “آرام دمشق وإسرائيل”، يقول فراس السواح، إنه كان هناك مملكتان هامشيتان باسم يهوذا في أورشليم وباسم إسرائيل في السامرة (في الضفة الغربية)، تشكلتا في القرنين السابع والتاسع ق.م، على التوالي، وتحدثتا لهجة كنعانية، كما اعتنقتا الميثيولوجيا الكنعانية السائدة آنذاك، ولعبت هاتين المملكتين على أوتار الصراع الإقليمي بين تحالف الممالك الآرامية بقيادة آرام دمشق وبين آشور، والذي استمر قرنين من الزمن بدءاً من معركة قرقرة في 854 ق.م. في تلك المعركة شاركت “إسرائيل” ضمن تحالف الممالك- المدن الآرامية ضد آشور بقيادة شلمنصر الثالث، وفي المعارك اللاحقة وقفت “إسرائيل” على الحياد ثم دفعت الجزية لآشور، ما دفع دمشق لإخضاع “إسرائيل” والسيطرة على الطرق التجارية المارة في حدودها، بعدما تخلّصت من الضغط الآشوري في 824 ق.م بوفاة شلمنصر الثالث.
اقرأ أيضاً: نزاعات داخلية.. أحداث من التاريخ تحاكي الواقع_ حسان يونس
في 745 ق.م، اعتلى عرش آشور تغلات فلاصر الثالث، الذي أسس لسياسة ضم الأراضي المغلوبة بالقوة إلى التاج الآشوري، (ولم يكتف بأخذ الجزية)، وحكمها بواسطة ولاة آشوريين معينين من الملك، وينوبون عنه، كما أسس لسياسة الترحيل المنظم للشعوب المغلوبة، وإحلال جماعات من الشعوب المغلوبة الأخرى بديلا عنها، فحدث نتيجة ذلك تغيير ممنهج في الخريطة الديمغرافية في الشرق الأوسط، طال أكثر من مئة شعب، وعشرات المدن كدمشق وحماة وبابل وجرابلس (كركميش) وسيميرا (تل كزل) وإسرائيل (السامرة)، وفي عهد تغلات فلاصر الثالث في 732 ق.م سقطت دمشق تحت سطوة الحكم الآشوري المباشر، وهجّر سكانها بعد ثورة فاشلة، وفي 721 ق.م أسقطت آشور مملكة إسرائيل (السامرة)، نتيجة تأثرها بالتحريض المصري لإثارة القلاقل أمام الآشوريين في جنوب سورية.
أحدثت سياسة الضم والترحيل القسري الآشورية دماراً واسعاً في جنوب سورية، باعتبارها منطقة قلاقل محاذية للنفوذ المصري المناهض للآشوريين، والعازف على وتر إثارة الفوضى في المناطق الطرفية من الإمبراطورية الآشورية، فدّمرت نتيجة ذلك مدن كثيرة في فلسطين كجرار ولخيش وبيت شمش والسامرة، ما فتح الباب أمام مملكة يهوذا في أورشليم، كي تتمدّد، وتصبح مركزاً في منطقة، أفقرت أغلب مراكزها نتيجة البطش الأشوري.
نشأت يهوذا وترعرعت تحت مظلة الإمبراطورية الأقوى آنذاك، آشور، وعملت معها لإسقاط دمشق 732 ق.م والسامرة 721ق.م، وعاشت قرنا من الزمان في كنفها، حاولت خلاله التمرد بتأثير مصري لاستغلال الفتن والحروب الداخلية في الإمبراطورية الآشورية، فخضعت لحصار آشوري، انتهى بدفع الجزية، حوالي 700 ق.م، في 614 ق.م، تحالفت بابل مع المملكة الميدية في إيران، وأطبقتا على مدينة آشور ثم أطبقتا على نينوى 612 ق.م، فتراجع الآشوريون إلى حران وخرجوا من المسرح كلياً.
اقرأ أيضاً: محطات من تدمير وإحراق المدن السورية_ حسان يونس
نتيجة هذا التحول في النظام الإقليمي، حاول المصريون استعادة نفوذهم على جنوب سورية، أسوة بما كان عليه الحال في زمن معاهدة قادش الشهيرة 1258 ق.م، التي قسمت سورية بين المصريين والحثيين، لكن الدولة الكلدانية الوليدة في بابل، بقيادة نابوبولاصر، وابنه نبوخذ نصر، استعادت المبادرة سريعاً، وهزمت المصريين في معركتين عند كركميش (جرابلس)، وعند حماة، فعاد المصريون إلى التحريض وإثارة القلاقل، واستجابت يهوذا للإغواء المصري للمرة الثانية في العهد الكلداني، فحاصرها نبوخذ نصر، وأطبق عليها الحصار ودمّر أسوارها وبيوتها وسبى سكانها في 591 ق،م فيما يعرف بالسبي البابلي الذي هو آخر عملية تهجير سكاني، حصلت ضمن سياسات تهجير شاملة، اتبعها الآشوريون، ومن خلفهم الكلدانيون، وأقلها وطأة، رغم ذلك، لم يتبقَّ في الذاكرة البشرية سوى الحديث عن السبي البابلي الذي كان نتيجة منطقية لتدخل مملكة يهوذا في السياسة الدولية.
إن ما يربط يهوذا القديمة بيهوذا الخزرية المعاصرة، أن كلتاهما تعتاشان على السياسة الدولية وتناقضاتها وتحولاتها، وإن بقاءهما مرهون بها، وما الاستعجال الأمريكي لدفع السياسة الخليجية إلى التطبيع العلني مع يهوذا المعاصرة، سوى انعكاس للعقلية ذاتها المتمثّلة في البحث عن فرص البقاء ضمن أروقة السياسة الدولية، التي تعيش اليوم تحولاً، لا يختلف في جوهره عن التحول الذي تضمن سقوط آشور وصعود بابل ومن خلفها ميديا ومن ثم فارس الأخمينية.
اقرأ أيضاً: سوريا والعمق المتوسطي_ حسان يونس