الإصلاح الإداري بين تجربتي سوريا والصين … أهمية الحامل السياسي
الوزراء في الصين يتفرغون شهراً كاملاً للمدرسة الحزبية بهدف تثقيفهم
تقول واحدة من تعاريف الإصلاح الإداري بأنه جهد سياسي وإداري واقتصادي واجتماعي وثقافي هادف لإحداث تغييرات أساسية إيجابية في السلوك والنظم والعلاقات والأساليب والأدوات تحقيقاً لتنمية قدرات وإمكانية الجهاز الإداري بما يؤمن له من درجة عالية من الكفاءة و الفعالية في إنجاز أهدافه.
سناك سوري _ فراس سلمان
ويعد الإصلاح الإداري حاجة ملحة اعترفت بها أغلب دول العالم. فقامت بجهود متنوعة لإنجاز هذا الإصلاح ومنها “سوريا” التي أنشأت لهذا الغرض وزارة التنمية الإدارية.
و بحسب المرسوم 281 لعام 2014 تهدف وزارة التنمية الإدارية إلى «تنظيم وتطوير أداء الإدارة والوظيفة العامة وتحسين خدماتها للمواطنين. ومكافحة الفساد الإداري من خلال تحديث القوانين والتشريعات الناظمة والتطوير المؤسساتي. وتأهيل الكوادر البشرية واستخدام تقانات المعلومات».
ولتحقيق هذا الهدف. حدد المرسوم مهام الوزارة بـ «وضع استراتيجية متكاملة للتنمية والتطوير الإداري تبدأ بتحديد دور الإدارة العامة وإعادة توزيع مسؤوليات التنمية بشكل يتناسب مع التوجهات الاقتصادية ويخدم أهداف التنمية».
تنظيم وتطوير أداء الإدارة والوظيفة العامة وتحسين خدماتها للمواطنين. ومكافحة الفساد الإداري من خلال تحديث القوانين والتشريعات الناظمة والتطوير المؤسساتي. وتأهيل الكوادر البشرية واستخدام تقانات المعلومات أهداف وزارة التنمية الإدارية بحسب المرسوم 281
ومن مهام الوزارة أيضاً بحسب المادة الثانية. مراجعة الأنظمة الداخلية للجهات الحكومية بما في ذلك الهيكليات. ووضع أطر برامج تأهيل وتطوير الكوادر البشرية. واقتراح التعديلات التشريعية والإجرائية الضرورية لتمكين التطوير الإداري. والإشراف على مشاريع تطوير خدمات المواطن.
فيما نصت المادة الثالثة على إنشاء وحدات للتنمية الإدارية في الوزارات والمؤسسات العامة. والتي سرعان ما عدلت بمرسوم لاحق غير تسمية مديريات الموارد البشرية إلى التنمية الإدارية ودمج بين مهام المديريتين.
وبالتالي نكون أمام وزارة فنية مختصة. تختص مثل بقية الوزارات التنظيمية بتنظيم قطاع معين وتعمل بنفس الآليات والأدوات التنظيمية. مع خصوصية أن قطاعها هو الوزارات الأخرى ومؤسساتها. مما يتطلب قدراً كبيرة من التنسيق والمرونة والتي لا يشتهر بها نظامنا الإداري الذي تسعى وزارة التنمية الإدارية إلى تطوير أدائه.
المشروع الوطني للإصلاح الإداري
وفي سياق التنفيذ. أعدت الوزارة المشروع الوطني للإصلاح الإداري الذي يتضمن إنشاء مركز القياس والدعم الإداري. لخلق منهجية واحدة ومتجانسة لكل الوزارات. وإنشاء مرصد الأداء الإداري لقياس الأداء ومركز خدمة الكوادر البشرية ومهمته وضع خارطة للموارد البشرية. وموقع الكتروني بهدف التواصل مع المواطنين وتلقي مقترحاتهم.
أما عن التنفيذ. فيشمل البرنامج التنفيذي الذي أقره مجلس الوزراء في تموز 2017. أربع مراحل تبدأ بمرحلة التأسيس وتنتهي في تشرين الأول عام 2019. باختتام مرحلة قياس الأثر التي تضمن استقرار آليات عمل المشروع.
وبالتالي في يومنا هذا وبعد مرور ست سنوات على المشروع الذي من المفترض أن ينتهي خلال سنتين إلى إحداث نقلات نوعية في أداء الإدارة العامة. يحق لنا أن نقف عند الاستراتيجية المتبعة والتي حدد مرسوم الإنشاء وضعها كهدف للوزارة ونتساءل عن مدى ملاءمة مسؤولية وضع استراتيجية الإصلاح الإداري .
مستوى قيادة الإصلاح الإداري في سوريا والدول العربية
عهد المرسوم الجمهوري إلى وزارة التنمية الإدارية مهمة وضع وتنفيذ استراتيجية الإصلاح الإداري في “سوريا”. وبالرغم من تبني مجلس الوزراء لاستراتيجيته وبرامج الوزارة. إلا أن التنفيذ المتعثر يثبت أن مشاكل الإدارة التي نريد إصلاحها وأهمها العطالة الإدارية وضعف التنسيق. أقوى من جهود الإصلاح وبالتالي إما أن تكون الخطة لم ترتقِ مع تبني الحكومة لها لتكون استراتيجية الحكومة مجتمعة. أو أن الحكومة تبنتها فعلياً ولكن هذه هي حدود إمكاناتها في التغيير والتغير.
أهمية الوسيلة السياسية في الحالة السورية لتنفيذ عملية الإصلاح. وكذلك توفير الحماية لها من خلال إصدار تشريعات تحسم ضرورة الإصلاح وجدية الدعوة إليه ومتابعته من القيادة السياسية. ديالا حاج عارف
وعند مراجعتنا لتجارب الإصلاح الإداري في الدول العربية نجد مستويات أعلى مما لدينا في قيادة عملية الإصلاح. فهنالك دول مثل “مصر” عهدت بالمشروع إلى وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري. ولكن تحت إدارة لجنة عليا يرأسها رئيس مجلس الوزراء. وفي دولة مثل “الإمارات” التي أعلنت استراتيجية حكومية للإصلاح الإداري تتابع تنفيذها وزارة شؤون مجلس الوزراء. ونجد دولاً مثل “العراق” و”السعودية” التي يترأس فيها لجنة الإصلاح الإداري رئيس الحكومة دون وجود وزارة مختصة.
ورغم اختلاف ظروف الدول العربية ونتائج خطط الإصلاح الإداري. فإننا نلاحظ أن أغلبها عهدت بالخطة إلى رئيس الحكومة. وليس إلى وزارة مختصة علماً أنه في العديد من هذه الدول يعد رئيس الوزراء رأس السلطة التنفيذية. كما في “العراق” و”السعودية”. كما نلاحظ أنها أولت أهمية أكبر لمسؤولية متابعة التنفيذ غير الواضحة في التجربة السورية.
اطلب الإصلاح ولو في الصين
لقد ابتدأنا هذه المقالة بتعريف الإصلاح الإداري بأنه جهد سياسي أولاً. حيث أن وسيلة الإصلاح الإدارية لوحدها غير كافية ولابد من استخدام الوسيلة السياسية أولاً.
وعلى سبيل المثال شدّدت الدكتورة “ديالا حاج عارف” في كتابها “الإصلاح الإداري, الفكر والممارسة 2003” في تقييمها للحالة السورية على أهمية الوسيلة السياسية لتنفيذ عملية الإصلاح. وكذلك توفير الحماية لها من خلال إصدار تشريعات تحسم ضرورة الإصلاح وجدية الدعوة إليه ومتابعته من القيادة السياسية.
ويبدو أن “الصين” هي خير من أدرك التعريف والوسيلة. فالصين المعروفة بأنها صاحبة تجربة الإصلاح الاقتصادي الأهم في التاريخ المعاصر. ارتبطت إصلاحاتها الاقتصادية بالإصلاح الإداري.
فقد كان من أهم خطوات بداية النهوض هو الإصلاح المؤسسي الذي قادته قيادة الحزب الشيوعي. من خلال إلغاء امتيازات قيادات الدولة العليا. خاصة كوادر الحزب القدامى تقديرًا لمساهماتهم السياسية وليس لكفاءاتهم وقدراتهم الإدارية. مما سمح بتحديث فريق المسؤولين الحكوميين.
نتائج الإصلاح
وقد نجم عن هذا الإصلاح البيروقراطي الأول نتيجتان مهمتان أولاً إحلال قيادات شابة مرتفعة الكفاءة وداعمة لفكرة الإصلاح. وثانيًا: تقصير المدة المتوسطة لولاية المسؤول في الموقع الحكومي مما يمنح الفرصة لكوادر أصغر سنًا وأفضل تعليمًا لتولي مناصب مهمة. الأمر الذي زاد الحراك في البيروقراطية الحكومية, وكانت اللامركزية الإدارية هي الجناح الثاني لهذا الإصلاح الإداري.
ولم يتوقف دور قيادة الحزب على إطلاق الإصلاح المؤسسي في “الصين” كعملية فوقية. لأن هذه العملية اكتسبت سريعًا شكلاً تفاعليًا بين القاعدة والقمة .حيث استجاب الأفراد وتفاعلوا مع عملية الإصلاح وأضافوا إليها جانبًا كبيرًا من الحيوية والابتكار الخلاق. وقد استفادت الحكومة بدورها من قوة هذه الاستجابة في طرح موجات تالية من التطوير والتغيير الإصلاحي.
والواقع أن مهندس الإصلاح في “الصين” الرئيس السابق “دينج شياو بنج” الذي تولّى الرئاسة بين عام 1978 و1992. نجح منذ البداية في أن يعبئ النخبة المثقفة خاصة الاقتصاديين والخبراء المنفتحين على العالم الخارجي. لدعم مشروعه الإصلاحي من خلال طرح دراسات ونماذج استشرافية. تشير إلى المزايا الإيجابية المتوقعة من وراء التغيير. وقد قاد ذلك تدريجيًا إلى تزايد اليقين بضرورة الإصلاح. خاصة بين قيادات الحزب والمجتمع إلى أن تحولت الأيديولوجية السائدة لتشجع ترتيبات مؤسسية جديدة خاصة في المجال الاقتصادي.
صنع القرار السياسي في “الصين”. يمر عبر مراحل معقدة من خلال أجهزة متعددة في مراكز أبحاث مستقلة والجامعات ومراكز أبحاث مرتبطة بالوزارات. ومراكز أبحاث مرتبطة بالحزب وكل يرفع تقاريره وتحليلاته. ثم تجلس القيادة في عزلة صيفية كل عام في منتجع صيفي. تدرس وتحلل وتقيم حصيلة ذلك كله ثم تتخذ القرار محمد جلال نعمان – رحلة في العقل الصيني
ولا شك في أن هذا النجاح الأولي قد شجع “بنج” على مواصلة استراتيجيته الإصلاحية الخلاقة والإبحار بها إلى آفاق أبعد. للعلم فهو صاحب مقولة «لا يهم لون القط مادام يأكل الفأر».
وبالطبع استمر الدور المركزي للحزب الشيوعي ومؤسساته بقيادة الإصلاح في “الصين” وكما قال الزعيم الصيني الحالي في المؤتمر التاسع للحزب مقولة تحمل الرؤيا والتعهد بالتنفيذ الصارم. جاء فيها «ينبغي علينا تحديث نظام حكم الدولة والقدرة على حكمها. والعمل بحزم لإزالة كل ما لا يتماشى مع الزمن من مفاهيم أيديولوجية وعيوب مؤسسية».
آلية اتخاذ القرار السياسي لتنفيذ الإصلاح
أما عن الآلية التي يتخذ فيها القرار السياسي المتعلق بإدارة وتنفيذ هذه الرؤى الإصلاحية. فيشير “محمد جلال نعمان” في مقالته “رحلة في العقل الصيني” إلى الآليات الإجرائية المتعلقة بذلك.
ويوضح “نعمان” أن صنع القرار السياسي في “الصين”. يمر عبر مراحل معقدة من خلال أجهزة متعددة في مراكز أبحاث مستقلة والجامعات ومراكز أبحاث مرتبطة بالوزارات. ومراكز أبحاث مرتبطة بالحزب وكلٌّ يرفع تقاريره وتحليلاته. ثم تجلس القيادة في عزلة صيفية كل عام في منتجع صيفي. تدرس وتحلل وتقيم حصيلة ذلك كله ثم تتخذ القرار الذي تصدره إلى القواعد الحزبية والأجهزة الإدارية والمؤسسات السياسية .لذلك يفاجأ الأجنبي الزائر بأن الجميع يتحدث لغة واحدة ويمنطق واحد وهو لا يعرف حقيقة الانصهار الفكري والإعداد لاتخاذ القرار.
ثم يأتي دور المدرسة الحزبية بحسب “نعمان” لتثقيف ليس الطلاب وكوادر الحزب. وإنما لتثقيف الوزراء الذين عليهم أن يتركوا أعمال وزاراتهم ويتفرغوا شهراً كاملاً لمدرسة الحزب. ولذوي الدرجات الأدنى يزداد الوقت الذي يتفرغون فيه للدراسة في مدرسة الحزب. وعندما تساءلنا عمن يدير الوزارة في غياب الوزير لمدة شهر كامل وفي غياب نائب الوزير ثلاثة أشهر. كانت الإجابة واضحة وسهلة أن الوزير ونائب الوزير ليست مهمتهم الإدارة اليومية. وإنما التخطيط الاستراتيجي ومن يتخذ القرار اليومي ويدير دولاب العمل هو مدير الإدارة ونائبه. ورئيس القسم ونائبه وهؤلاء من جيل الشباب. وهذه مهمتهم. أما جيل الشيوخ المخضرم الذي حصّل العلم والحكمة فلا ينبغي أن يضيع وقته في الإدارة اليومية والبسيطة. وإلا كان ذلك تبديداً للموارد البشرية وهدراً للطاقات والكفاءات.
بالنتيجة تثبت التجربة الصينية أن العامل الأهم في نجاح الإصلاح الإداري والمؤسساتي هو امتلاك القيادة السياسية العليا لرؤيا ومنهجية إصلاحية مع التزام معلن بإنجازها. علماً أن تجربة “الصين” في الإصلاح الاقتصادي تعتبر من أهم التجارب الدولية.