الرئيسيةرأي وتحليل

إمبريالية بالخل والبصل – أيهم محمود

هل تعلمون أن هناك إمبريالية بالبصل والخل وأخرى باللوز والسكر؟

يعلم الكثير من الناس في مناطقنا أن هذه الكلمة تشبه الشتيمة عند بعض القوى السياسية لكنهم لا يعلمون وجود نوعين منها: إمبريالية بالخل والبصل، وأخرى باللوز والسكر مع مقدار بسيط من مسحوق القرفة على سطحها، واحدة حميدة محمودة، وأخرى ضارة مكروهة، هما موضوع مقالتنا اليوم، لكن يتوجب قبل الخوض في تفاصيلهما توضيح سبب التمييز بينهما، إضافة إلى ذكر تعريف مختصر للإمبريالية باللغة العربية الفصحى المجردة من أي دافع نظري أو عاطفي.

سناك سوري-أيهم محمود

أهتمُ في السنوات الأخيرة بتحليل استخدامنا اليومي للغة كحامل لوعينا وثقافتنا، أهتمُ أيضاً بالمعاني العميقة الخفية التي تختبئ خلف المصطلحات والعبارات التي نرددها يوميا بفرحٍ أو بغضب، أي تغيير إجتماعي أو سياسي لا يطال بنية اللغة ويقود إلى إعادة تعريف واستخدام مصطلحاتها هو تغيير سطحي التأثير قدره أن يزول سريعا أو يبقى كطلاءٍ ملون للدعاية لا يعكس الواقع الحقيقي للمجتمعات.

بدأت فكرة المقالة مع خبر يصف فيه المستشار الألماني العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنها تنطلق من “رؤية شديدة الإمبريالية”، لقد ارتبطت كلمة الإمبريالية في وعينا المحلي بأمريكا ومحاولاتها المستمرة لتوسيع نطاق سيطرتها الإقتصادية والعسكرية على العالم، ساهم استخدام القوى اليسارية لهذه الكلمة بشكل مكثف في تثبيت هذا الربط في ذاكرتنا حتى أصبحت كلمة “الإمبريالية” بمعنى الشتيمة، وهو ما عبر عنه بذكاء شديد كاتب مسلسل الخربة في مقولة تكررت على لسان أحد أبطال العمل “الإمبريالية أحقر من بقرة معلمو لأكرم”، في إشارة واضحة الدلالة على مقدار المفردات التي نستخدمها في حديثنا اليومي رغم أن معناها الحقيقي بعيد عن إدراك غالبية المجتمع، وإدراك الكثير من أولئك الذين يستخدموها بكثافة لغايات سياسية أو ثقافية أيضاً، فإن رغبنا بشرح هذه المصطلحات للناس استخدمنا تعابير عاطفية لا صلة لها بمعنى الكلمة نفسها.

“الإمبريالية”، سياسة أو آيديولوجية تهدف لتوسيع نطاق حكم الشعوب والدول الأخرى بغية زيادة فرص الوصول السياسي والاقتصادي وزيادة السلطة والسيطرة، ويكون ذلك غالباً من خلال استخدام القوة الصارمة، وخاصة القوة العسكرية، ولكن أيضاً من خلال القوة الناعمة. ترتبط الإمبريالية بمفاهيم الاستعمار والإمبراطورية، مع ذلك، تعد الإمبريالية مفهوماً متميزاً يمكن أن ينطبق على أشكال أخرى من التمدد، وعلى العديد من أشكال الحكومة.

يستخدم بعض الكتاب، من أمثال إدوارد سعيد، المصطلح على نطاق واسع لوصف أي نظام للسيطرة والإخضاع يتمحور حول مفاهيم الدول الأساسية الإمبراطورية والدول الهامشية. يشمل هذا التعريف كلاً من الإمبراطوريات والاستعمار الجديد”.

اقرأ أيضاً: الأمبيرات وشهر نيسان الذي لم ينتهِ بعد – أيهم محمود

لم يستطع بعض اليسار (وهنا لا نشمل اليسار ككل بل كجزء يمثل القوة الكبرى والصوت المسموع) وبقية القوى السياسية المنغمسة في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، استخدام هذا المصطلح لوصف واقع التمدد الامبرطوري الروسي الحالي، فالإمبريالية كما أسلفنا تشبه الشتيمة في قاموسهم السياسي ولا يصح إطلاقها على صديق حتى لو انطبقت تصرفاته مع المعنى الحرفي للكلمة بشكلٍ تام، المشكلة ليست في الكلمة فهي مصطلح يخلو من أي ذمٍ أو مدح لكن بعض من استخدمه حمّله معاني ليست فيه، حمّله شحنة انفعالية عاطفية حرفته عن معناه الحقيقي ومنعت استخدامه في موضعه الصحيح، لم يستطع اليسار المحلي، والاقليمي، وجزء مهم من اليسار العالمي، تجاوز نقيصة البشر الأخطر والأكثر تسبباً بالدمار والكوارث العالمية، وباء تغليب العاطفة والأهواء على العقل النقدي العلمي الصارم حتى عند من يَدّعون أنهم يحملون بذور الوعي وبذور التغيير في برامجهم الثقافية والسياسية.

ولم يستطع الكثير من رفاقنا باليسار خصوصاً أولئك الذين انتظموا في قوىً وتنظيمات سياسية أن يُشكّلوا حالة تجاوزٍ مهمة في واقع الثقافة البشرية المزري وظل يحمل مع رفاقه في الإنسانية عيوبها بل أكثر، لقد قام هؤلاء بتكريس هذه العيوب في المجتمعات البشرية بما يشبه الخيانة الحقيقية للأسس التي انطلق منها، فهل اليسار وحده من غرق في هذه الحالة العاطفية أم أن هناك قوى أخرى لا تقل عنه غرقاً؟ السؤال المنطقي التالي: هل نحن نكره الإمبريالية حقاً؟ أم أننا نكره نسخة الخل والبصل منها بينما نستسيغ طعم الإمبريالية إن تم طهيها مع اللوز والسكر؟.

“أمَـويُّـونَ، فإنْ ضِقْـتِ بهم         ألحقـوا الدُنيا بِبُسـتانِ هِشَـامْ”

والقصيدة للشاعر سعيد عقل قبل انتقاله إلى ضفاف أخرى، غنتها فيروز ومازلنا نستمع لها بكثافة، “ألحقوا الدنيا” كلها وليس فقط الدول المجاورة أو تلك التي تخدم مصالحنا الإقتصادية، كل الشعوب إمبريالية تحلم بالتوسع وهذا ليس مدحاً لهذه الحقيقة بل تثبيت لها على أمل أن تتغير في يوم من الأيام ليسود السلام في عالمٍ أنهكته الحروب وأحلام التوسع والسيطرة على موارد الآخرين، في قصيدة سعيد عقل نعترف صراحةً أننا نتمنى لو كنا الإمبريالية التي تستطيع التمدد ليشمل نفوذها العالم، العين بصيرة واليد قصيرة، لكن من يدري كيف تتغير الأحوال في المستقبل.

ليس مصطلح الإمبريالية وحده، بل هو مثال واحد من بين عشرات الكلمات الأخرى، مثل الشتائم التي تتناول الأخت والأم، وهي تستحق أن تكون موضوع مقالةٍ أخرى، كيف نربط في لغتنا ووعينا الفعل الجنسي مع العنف والإذلال بدل أن يكون فعل حب وفعل انتماء، زلات اللسان عند الغضب أكثر صدقاً من جميع الأقنعة الثقافية التي نرتديها، وحتى بلوغ الجنس البشري عصوراً يتمكن فيها من خلع أقنعته وتجاوز نقائصه اليومية سنظل نقسم الإمبريالية إلى إمبريالية بشعة مكروهة وإمبريالية جميلة، كلٌ حسب موقعه السياسي والثقافي.

اقرأ أيضاً: رأس المواطن العادي يتعرض للقصف المركز في شهر نيسان – أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى