“أديب البحر” يغير عنوانه… الراية الشيوعية في وداع “حنا مينة”
حنا مينه.. حين حضر الجميع وغاب "حنا مينة" وغابت وصيته
في 17/8/2008 جلس “حنا مينة” أمام طاولته، أشعل سيجارته الطويلة و نظر إلى الورق الأبيض أمامه. راودته فكرة البداية و النهاية بينما حمل قلمه الأسود. و بدل أن يكتب:«كانوا يخرجون بأبي المريض على محمل.. و كانت أمي تبكي وراءه» كما جاء في افتتاحية روايته بقايا صور. أو يكتب مثلاً «أنا زكريا المرسنلي لست راضياً عمّا حدث و أقسم على ذلك» (رواية الياطر)، كتب في رأس الصفحة “وصية حنا مينة”.
سناك سوري – محمد العمر
يعرّف “حنا مينة “عن نفسه و كأنه غير مؤمن بالشهرة التي نالها ولا بحضوره القوي لدى قرائه الكثر. يقول الكاتب السوري نبيل صالح ” لقد طلب “حنا مينة” الموت خطّيَّاً منذ سنوات لكن عزرائيل ما زال غير قادر على روحه المتوثبة”.
يفكّر صاحب الوصيّة بنهايته كرجل شجاع، يوصي بموت بسيط دون ضجيج إعلامي. و التزاماً منّا بوصيته فإنّنا لن نرثي الراحل و سنمشي على رأي الكاتب و السيناريست السوري حسن. م. يوسف الذي قال أن أديب البحر «غيّر عنوانه» لا أكثر.
هذا الرحيل الكبير أثار لدى قرائه القدامى حنيناً للقاء الأول بكلماته فكانت ” بقايا صور” من ذاكرة الكثيرين.
تقول الشاعرة السورية “رشا عمران ” معلقة على رحيله: «كنت في الثالثة عشر من عمري حين قرأت” الثلج يأتي من النافذة”. حتى هذه اللحظة أتذكّر الرعشة التي أصابتني حين قرأتها”».
بينما يصف الصحفي السوري “كمال شاهين” طقوس اللقاء الأول على نحو مختلف فيقول:«كان أول عهدي بالقراءة حين لطشت من مكتبة خالي. عملك” الأبنوسة البيضاء” حدث هذا منذ دهر».
متواضع يكسر الحواجز
أجمعَ كلُّ من التقى “مينة” أنّهُ كان إنساناً طيباً متواضعاً يكسر حواجز الهالة المقدسة للكاتب الكبير و يفتح قلبه للآخرين كحضن واسع. من صديق قديم كما يصف الكاتب السوري “فادي قوشقجي” لقاءه الأول بـ “حنا مينة” قائلاً:«أنا في حضرة كاتبي العملاق المفضل كنت قد نسيت. تحدث معي كما يتحدث أب عطوف مع ابن يحاول شق طريقه. تحدث معي كما يتحدث صديق يروي لصديقه في لحظة صفاء نكتة “قوية”. تحدث معي وكأني “زميل” له.. أنا الذي لم أكن قد نشرت حرفاً في تلك اللحظة».
اكتسب “حنا مينة” هذه الإنسانية من رحم الشقاء الذي خلق فيه و صارعه و هزمه. كما يقول في وصيته: «ولا بدّ لابن الشقاء أن يناضل ضد الظلم و الاستغلال». فهو كما وصفه الشاعر” نزيه أبو عفش” كان:« بدون أن يكون متحزّباً كهنوتياً كان إنساناً ماركسياً، ماركسيّ القلب و القلم».
لم تشفع إبداعات “حارة الشحادين” و “عاهرة و نصف مجنون” و ” المصابيح الزرق” و القائمة الطويلة من الروايات و المقالات لصاحبها. الذي كان من مؤسسي اتحاد الكتّاب العرب فخرج منه لاحقاً حين وقف ضده حكّام الاتحاد الجدد. في لحظة خيانة متكررة لكل مبدعي البلاد تاريخياً. دون أن يدركوا أن خروج قامة مثل “حنا مينة” و “سعدالله ونوس” ينقص من المؤسسة و يزيد في رصيد الكاتبين الكبار.
أقيمت جنازة الراحل “حنا مينا” شهر آب من عام 2018. لم يكن حملة النعش أربعة عمال من مكتب دفن الموتى كما جاء في الوصية. بل حضر كبار المسؤولين في الدولة تتقدمهم نائب رئيس الجمهورية “نجاح العطار” التي كتبت مقدمة طويلة لروايته “بقايا صور. وكان إلى جانبها حينها وزراء الثقافة و الإعلام وحشد من الفنانين والكتاب والمثقفين. و حضر علم الحزب الشيوعي السوري و حشد من الناس و كاميرات القنوات المحلية. حضر الجميع و غاب حنا مينة و غابت وصيته.