قانون الإدارة المحلية في سوريا .. البحث عن وليد الظروف وليس أسيرها
الصدفة أم القدر؟ ما الذي يمنعنا عن اللامركزية على مدى التاريخ؟
مع بداية القرن الحالي دخلت “سوريا” مرحلةً جديدةً تخللتها مراجعات لتراكمات الماضي وحاجة لتغيير منطق التفكير المركزي. وهو تفكير تكرّس كثقافة لدى الجميع سلطة ودولة ومجتمع، بما ينسجم والواقع الجديد ومآلاته الواعدة في البلاد.
سناك سوري -بشار مبارك
في العقد الأول من القرن الحالي كانت الأصوات الداخلية تعلو بضرورة تغيير منطق الحكم وإفساح المجال للمشاركة فيه. وقد استفادت من الرغبة الحكومية بالانضمام للشراكة السورية الأوروبية التي حملت توصيات المنظمات الدولية إلى “دمشق”.
وهي توصيات أتت انطلاقاً من التجارب التي راكمتها هذه المنظمات في التعامل مع دول لديها ما يشبه السياق السوري وتحدياته. والتي أثبتت كيف يمكن للامركزية أن تكون أحد مداخل التنمية المتوازنة وتعظيم عوائد الفرص المتاحة على كل الأصعدة.
بالإضافة لإفساح المجال لمساحات واعدة من المشاركة المجتمعية في الحكم وإدارة الموارد والبلاد بما يعزز من الاستقرار ويدعم عملية الإصلاح في سوريا.
جاء قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 من بيئة معقدة فيها مطالب بعدم تكرار أخطاء الماضي والمضي بشكل أكثر جرأة إلى اللامركزية. ورؤيتين في السلطة، الأولى تتوجس من اللامركزية وتعتمد مبدأ الانتقال التدريجي. والثانية لديها ثقافة مركزية مترسخة تحاول الحفاظ على كل مكتسباتها بشار مبارك
وضمن هذا السياق بدأ العمل على دراسة قانون جديد للإدارة المحلية في سوريا. يكون نقطة تحول شكلاً ومضموناً على صعيد إدارة الدولة والمجتمع. ويفتح الباب أمام الفرص الواعدة داخلياً وخارجياً.
وذلك ضمن توجه حكومي لصياغة تجربة سورية في مجال اللامركزية. تملك كل مقومات وضعها موضع التطبيق، ومعها إمكانية للبناء على ما سيتحقق من إنجازات خلالها.
قانون إدارة محلية جيد وبيئة تطبيق مضطربة
جاء قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 من بيئة معقدة فيها مطالب بعدم تكرار أخطاء الماضي والمضي بشكل أكثر جرأة إلى اللامركزية. ورؤيتين في السلطة، الأولى تتوجس من اللامركزية وتعتمد مبدأ الانتقال التدريجي. والثانية لديها ثقافة مركزية مترسخة تحاول الحفاظ على كل مكتسباتها. إضافة إلى محليات ضعيفة لن تكون قادرة على تحمل تبعات انتقال مباشر كهذا.
من الطبيعي أن يكون قانون الإدارة المحلية في سوريا وأي بلد وليد “الظروف”، لكن المشكلة الكبيرة أن يكون “أسير الظروف” بشار مبارك- خبير إدارة محلية
على صعيد النص يمكن القول أن هذا القانون جاء متقدماً على مستوى الصلاحيات التي منحها للمجالس المحلية والمراكز القانونية التي تم استحداثها ضمنه. إلى جانب مساحات المشاركة المجتمعية التي حاولت أن تؤسس لخلق ديناميات مجتمعية جديدة.
أما على صعيد التطبيق، فقد ترافق صدور القانون في شهر آب لعام 2011 مع أزمة عنيفة بدأت بالتصاعد على مختلف الأصعدة وتعقدت معها مآلات الحل سياسياً وعسكرياً. الأمر الذي فرض الانكفاء إلى مركزية شديدة على صعيد القرار والفعل. بافتراض أنه السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة والحفاظ على وحدة البلاد.
وهكذا أُفرِغ القانون من أحد أهم أهدافه وهو الانتقال الى اللامركزية، في دولة تعززت مركزيتها واشتدت، كحل لطالما حضر عند كل أزمة او اختبار.
إن القول بتقدم هذا القانون عما سبقه من قوانين، هو قول يفرضه منطق التطور في صياغة القوانين وانسجامها مع حركة التطور الطبيعي لأي بلد. ويستند بالتأكيد إلى قراءة مقارنة بين مجمل القوانين السابقة التي نظمت العمل البلدي في سوريا. إلى جانب ما رافقها من قوانين مالية وتنظيم عمراني وغيرها الكثير. والتي تشكل في مجملها وثائق حية تفتح الباب عريضاً لنقاشات مهمة في قراءة وتحليل النص القانوني وتطوره أو تراجعه مع كل قانون جديد يصدر.
الصدفة أم القدر؟ ما الذي يمنعنا عن اللامركزية ؟
لطالما وقفت في مناسبات كثيرة عند سؤال أعترف أنه لا يتفق ومنطق البحث والتحليل، لكنه يبقى واقعاً يفرض نفسه حتى في قراءتنا وتحليلنا لتشريعات العمل البلدي في سوريا.
سؤال تتأرجح إجابته بين الصدفة أو القدر، وفرضته حقيقة اشتراك كل التشريعات السابقة بسياق مشابه للمرسوم 107. وأن يترافق صدورها مع تغيير كبير سواء في بنية الدولة ومنظومة الحكم، أو في المشهد الإقليمي الذي يفرض استجابات جديدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
قانون الإدارة المحلية الذي نحتاجه هو قانون يرسم استجابات لما هو قائم من تحديات، أكثر مما يفترض أن يرسم رؤى وطموحات قد لا تتسق والمشهد الذي ذكرناه بشار مبارك- خبير إدارة محلية
فهل هي الصدفة التي جعلت قانون البلديات رقم 172 لعام 1956، وقانون التنظيمات الإدارية رقم 496 لعام 1957 يبقيان حبيسي نصوصهما في ظل تغير كبير في بنية الدولة عنوانه الوحدة مع مصر. وهي قوانين لا تتفق والسياق المستجد الذي فرض نفسه بعد الوحدة. وتكرار السيناريو مع قانون 1961 الذي صدر قبل شهرين تقريباً من الانفصال الذي عطل العمل بالقوانين التي فرضتها الوحدة.
إذاً .. في كل مرحلة ومع كل قانون كنا أمام سياق مشابه لما ذكرته بخصوص القانون 107. رؤى وأفكار وطموحات كبيرة تترجم قانوناً. لكنها ترافق مع تغير جذري في المشهد السوري!. بشار مبارك
وحتى قانون الإدارة المحلية لعام 1971 ورغم أن الكثيرين يمكن أن يناقشوا أنه نال ما يستحق من فترة استقرار سياسي على صعيد منظومة الدولة والحكم. إلا أننا لا يمكن أن نقرأه دون اعتبار لحدث غيّر عميقاً في منطق التفكير وآلية الحكم في “سوريا” مثل حرب تشرين 1973. وهذا التغيير كان لجهة الآثار المباشرة إقليمياً وسياسياً، أو على صعيد نتائج هذه الحرب ومنعكساتها الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا لم تكن الصدفة، هل هو قدر اللامركزية في سوريا دوماً أن تترافق مع حدث يغيّر مسار تاريخ هذه البلاد، ويعيدها خطوات الى الوراء؟.
إذاً .. في كل مرحلة ومع كل قانون كنا أمام سياق مشابه لما ذكرته بخصوص القانون 107. رؤى وأفكار وطموحات كبيرة تترجم قانوناً. لكنها ترافق مع تغير جذري في المشهد السوري!.
تغيير يفقد القانون أهم عوامل قوته “الاستقرار”. وفي بيئة غير مستقرة يصبح القانون إما حبيس نصوصه أو منكفئاً ضمن حدود فهم وتطبيق جزئي مترافقاً مع تعديلات وقرارات تفرغ الكثير من مواده من مضمونها.
لا تعيين للواقع.. لا يقين بالمستقبل
مؤخراً بدأت تعلو طروحات نحو تعديل قانون الإدارة المحلية رقم 107، أو المضي نحو تشريع جديد. لكن ضمن المشهد السوري الحالي يبدو أن أي توجه ضمن هذا السياق لن يخرج عما سبق ذكره من تحديات، بل على العكس فالواقع الحالي يفرض تعقيدات أكبر من أي مرحلة مضت في تاريخ سوريا.
حيث يمكن توصيف المشهد الحالي بحالة اللا تعيين، فنحن أمام مرحلة انتقالية لا تبدو واضحة المعالم، ومآلاتها متشعبة وفوقها ضغوطات اقتصادية واجتماعية تراكمت خلال سنوات الأزمة. وعلى المستوى المحلي تشتد وطأة هذه الضغوط دون أي خطة واضحة على المستويين المركزي أو المحلي.
أما حالة اللا يقين فيمكن توصيفها بمستقبل الحل السوري الذي يبدو مستعصياً حتى الآن رغم كل ما يروج له من انفراجات. وما يعني ذلك من عودة المناطق خارج سيطرة الحكومة السورية، وعودة النازحين واللاجئين وإعادة الإعمار وغير ذلك من ملفات ستتمايز على صعيد إدارتها تبعاً لخصوصية كل منطقة، إذا لم نقل ضمن المنطقة نفسها أيضاً.
قانون يؤسس لاختبار حقيقي تلعب فيه المحليات أدوارها المختلفة على صعيد الصلاحيات والتمثيل المجتمعي. وإعادة النظر بالتقسيمات المحلية والإدارية الحالية، وشكل ومضمون العلاقة بين المركز والمحليات. فلنعمل على قانون يكون وليد الظروف وليس أسيرها. بشار مبارك
وأي عمل باتجاه تشريع جديد لا ينطلق من هذا التوصيف لن يكون إلا حلقة جديدة في مسلسل يمكن أن نتلمس سير أحداثه. لكننا هنا لا نملك أن نركن إلى الصدفة أو القدر في تبرير أي إحباط أو فشل أو تحديات في التطبيق. فالقانون الذي نحتاجه هو قانون يرسم استجابات لما هو قائم من تحديات، أكثر مما يفترض أن يرسم رؤى وطموحات قد لا تتسق والمشهد الذي ذكرناه.
وإذا كان بالإمكان توصيف المرحلة الحالية بالمرحلة الانتقالية، فليكن، ولنعمل على قانون بسقف طموحات يتناسب والمرحلة الانتقالية على كل ما فيها من تعقيدات واحتمالات.
قانون يستفيد من أخطاء الماضي ويبني على التجارب الناجحة التي تمت خلال سنوات الأزمة في مختلف المناطق السورية. قانون يؤسس لاختبار حقيقي تلعب فيه المحليات أدوارها المختلفة على صعيد الصلاحيات والتمثيل المجتمعي. وإعادة النظر بالتقسيمات المحلية والإدارية الحالية، وشكل ومضمون العلاقة بين المركز والمحليات. فلنعمل على قانون يكون وليد الظروف وليس أسيرها.