سلمى الحفار .. الثائرة منذ الطفولة في مسيرة من عنبر ورماد
صاحبة "عينان من إشبيلية" .. راسلت نزار قباني لسنوات وأقنعت أم كلثوم بالغناء في دمشق
لم تكن تلك الطفلة التي تلمع عيناها بجرأة قد تجاوزت الرابعة من عمرها حين وقفت على طاولة أمام كبار رجال السياسة في “سوريا” و”لبنان” لتلقي قصائد عن الوطن بحضور زعمائه ومناضليه.
سناك سوري _ هبة الكل
وفي منزل “فخري البارودي” وقفت تلك الطفلة للمشاركة في استقبال المناضل القادم من الشمال “إبراهيم هنانو” بأبيات شعرية. بينما فوجئ والدها بوجودها في هذا الاجتماع الذي تفيض منه رائحة السياسة.
عام 1923 وفي حي “الشاغور” الدمشقي ولدت “سلمى لطفي الحفار” واكتسبت من اسم والدها وعمله السياسي ميزة التعرّف لكبار الزعماء الوطنيين في “سوريا” و”لبنان” لا سيما في فترات النضال ضد الاستعمار الفرنسي وصولاً إلى الاستقلال.
مواجهة مبكرة
لم تكن “سلمى” قد تجاوزت الـ17 من عمرها حين واجهت الدورية الفرنسية التي داهمت منزلهم بحثاً عن أبيها. وقامت بتسليمهم إنذاراً لتسليم نفسه خلال 10 أيام تحت طائلة المحاكمة الغيابية ومصادرة أمواله فكان ردّها «عندنا أملاك بقدر ما عندكم عدل فاحجزوا عليها إذا استطعتم».
في حين كانت موهبة الكتابة تكبر وتزهر في نفسها دون أن تشعر فراحت تكتب يومياتها وخواطرها. إلى أن نشر لها والدها أول مقالٍ لها في مجلة “الأحد” حمل عنوان “كيف يجب أن نستفيد من الزمن؟”.
المسيرة التعليمية
تروي “سلمى الحفار” في كتابها “عنبر ورماد” الذي روت فيه الكثير من سيرة حياتها. أن أول ما تعلمته بعمر 6 سنوات القرآن الكريم وقواعد الكتابة واللغة العربية على يد الحاجتين “فاطمة وعائشة مدوّر”.
ثم نقلها أبوها إلى مدرسة “الشنباشية” الحكومية بمنطقة السبع طوالع، ثم إلى “دوحة الأدب” ومنها لمعهد “راهبات الفرنسيسكان” وفيه درست 9 سنوات، اكتسبت منه الكثير من الخبرات والصّداقات من بيئات غربية مختلفة عن بيئتها الشرقية المحافظة.
لقد عانيت الحياة بما فيها من حلو ومرّ، فأدركت أن لا بد للإنسان من التّزود بالصّبر والحكمة والمرونة لأنّ الصّراع مدّ وجزر.. والسّعيد ليس ذلك الأناني الذي يجنّد إمكاناته لخدمة ذاته والتّرفيه عنها، وإنّما الإنسان السّويّ الذي يتسع قلبه للوجود ويشارك الناس بمعضلاتهم ويسهم في معالجتها سلمى الحفار من كتاب عنبر ورماد
وتقول “سلمى” عن مراهقتها في الكتاب ذاته: «كانت مليئة بالشّغب والتّمرد والتّحرر من القيود لا القيم». هذا الشغب كان السّبب في طردها من صف اللغة العربية لمدة عام كامل من قبل معلمتها الأديبة “ ماري العجمي“. إلا أن الحرمان من المدرسة كان فرصة لتعلم سلمى اللغة الإيطالية إثر التحاقها بصفه.
ثورة على التضليل والنقاب
تروي “سلمى” حادثة عن أولى ثوراتها عام 1939 حين احتجت في المدرسة على مقطع في كتاب التاريخ يسيء للعرب وأصلهم وطباعهم ودينهم. فواجهت مدرّستها بالقول أن مؤّلفه دجّال وجاهل ولا يعرف شيئاً عن العرب، وأن الإسلام دين مكارم الأخلاق باعتراف الأجانب الذين درسوه.
حادثة الاحتجاج تلك سيوثّقها والدها بكلمة نشرها في جريدة “الإنشاء” أثارت جدلاً أفضى إلى سحب منهاج التاريخ وفرض رقابة على كافة الكتب المدرسية.
أما ثورتها التالية فكانت حين دعتها والدتها لضرورة التحجّب لبلوغها سن الشباب. لكنها رفضت ذلك وشرحت وجهة نظرها عن النقاب في كتابها أنه يجمّل المرأة ويستر بعض عيوبها ويُغري الناس بمعرفتها عن كثب ولكنّه، يُضعف ثقتها بنفسها وبالحياة ويلقي في روعها أنها كائن ناقص معزول”.
سلمى الحفار ونزار قباني
تزوّجت “سلمى” للمرة الأولى من “محمد كرامي” عام 1941 في مدينة “طرابلس” اللبنانية، لكنه توفي بعد عام واحد من الزواج وقد أنجبت منه ابنها “نزيه”.
وبحلول 1948 كانت “سلمى” على موعد مع الزواج الثاني من السفير “نادر الكزبري” الذي أنجبت منه ابنتيها “ندى” و”رشا”.
“الكزبري” الذي كان يعمل في السلك الدبلوماسي. انتقل مع زوجته إلى “إسبانيا” حيث تعرّفت “سلمى” على المستشار الثقافي للسفارة السورية هناك حينها الشاعر “نزار قباني”. فكانت تعرض عليه كتاباتها الأدبية وقد كتب لها مقدمة روايتها “عينان من إشبيبلية” عام 1965. واستمرت صداقتهما طويلاً عبر تبادل الرسائل التي جمعتها “سلمى” عام 2001 في كتاب
سلمى الحفار وأم كلثوم
عندما أحيت الفنانة أم كلثوم حفلتين بدمشق عام 1955. كانت الأديبة سلمى السّبب في إقناعها بالغناء بعد انقطاع طويل، وهي من تكلفت وأعضاء جمعيتها ” جمعية المبرة والمواساة التي أسستها عام 1945م للاعتناء بالفتيات الجانحات واللقطاء وتعليمهم” بترتيبات الحفلتين ونجحتا وذهب ريعهما للجمعية، وتبرعت “أم كلثوم” للجمعية وقتها.
لم تكن هذه المرة الأولى التي التقت فيها “سلمى” كوكب الشرق أم كلثوم، فسبق واجتمعت بها في لبنان ومصر عندما سافرت إليها أواخر عام 1945. بالإضافة إلى التقائها بزعيمة النهضة النسائية “هدى شعراوي” ذلك الوقت. وفق ما أوردت في كتابها “عنبر ورماد”.
ستون عاماً من الأدب
اعتبارا من عام 1946 بدأت “سلمى” كتابة ونشر مقالات متنوعة وقصص قصيرة، والكثير من المحاضرات التي تخصّ المرأة العربية ألقتها في الأندلس، تونس، سوريا، وكان من بين الدعوات التي أتتها دعوة شقيقة شاه إيران “رضا بهلوي”.
نُشرت مقالاتها في مجلات عربية متل: الأديب، أصداء، صوت المرأة واليقظة العربية، وأخرى فرنسية مثل: الريفو دو ليبان مع كتابة الشعر بالفرنسية. وأصدرت يومياتها القديمة بعنوان “يوميات هالة” عام 1950. والتي نالت إعجاب الشاعر “بدوي الجبل” والناقد “مارون عبود”.
وكتبت في السيرة الذاتية كتاب “نساء متفوقات” 1961 وقدّمه “د. قسطنطين زريق”، ووثقت معاناة الفلسطينيين في روايتها “البرتقال المر”. ومن شدة ولعها بأدب الرسائل، سافرت إلى نيويورك وفيها جمعت رسائل جبران خليل جبران لمي زيادة ضمن كتاب “الشعلة الزرقاء” 1982. ورسائل مي لجبران وحياتها في كتاب ” مي زيادة ومأساة النبوغ” 1987. وعن الأخير مُنحت جائزة الملك فيصل للأدب العربي عام 1995.
كما نالت الجائزة الأولى لمسابقتين أعددتهما محطة “الشرق الأدنى للإذاعة العربية” ومجلة “صوت المرأة” عن مقالين لها بعنوان: ” لمحة عن تاريخ الموسيقى، أثرها في النفس” و ” من ذكريات الطفولة”.
وفي عام 2006 توفيت الأديبة “سلمى الحفار الكزبري” في بيروت عن 83 عاماً، وبعد رحيلها بـ 13 عاماً قدمت عائلتها كامل أوراقها ومخطوطاتها إلى جامعة “براون” الأمريكية لتكون متاحة أمام الباحثين.