استهلاك المهندسين- أيهم محمود
المهندسون يتبرعون بأموالهم لتمويل مشاريع البناء!
سناك سوري – أيهم محمود
يبلغ الحد الأدنى المتعارف عليه لأتعاب الدراسات الهندسية ثلاثة في المائة من قيمة تكلفة البناء وهي مقارنة بالحد الأدنى لأرباح التنفيذ والتي تبلغ عشرين في المائة من تكاليف البناء قيمة صغيرة وهامشية لكنها تكفي لاستمرار العمل الهندسي وتجديد التجهيزات وتدريب مهندسين جدد من أجل استمرارية العمل الهندسي وتطويره.
هذا هو الحد الأدنى والذي يجب تحصيله من دراسة المنشآت التقليدية وليس الاستثنائية الخاصة التي تتطلب مراجع وبرامج هندسية وخبرات عالية قد ترفع أجور الدراسة بمقدار ضعفين أو ثلاثة أضعاف قيمة الحد الأدنى، هذا الحد الأدنى أصبح مقداراً ترفضه الغالبية العظمى من المتعهدين ومالكي العقارات والمنشآت وتم تقليصه إلى قيم كارثية ستؤدي خلال بضع أعوام إلى تدمير العمل الهندسي بعد استهلاك المهندسين الذين يقدمون هذه الخدمة الآن لأدواتهم وتجهيزاتهم وعدم قدرتهم على تجديدها بعد أن تم تخفيض أتعابهم إلى مقدار العشر في أفضل الحالات ومعظم المهندسين يضطر إلى العمل بقيم أقل من العشر بكثير، هذه المعادلة القاتلة تعني أن المهندس هو من يمول الدراسات الهندسية للمتعهدين ومالكي العقارات من بقايا أمواله التي جمعها في فترات سابقة، قيمة اهتلاك التجهيزات التي يستخدمها أعلى من قيمة الأتعاب التي يحصل عليها، أي أن مالك المشروع هو الذي يحصل على المال من المهندس الدارس بدلاً من أن يحدث العكس، لا يدرك معظم الزملاء حدود هذه المعادلة ولا يدركون نتائجها القاتلة على المدى القصير، يقوم بعض الزملاء بوظيفة متعهد حيث يوكلون أعمال الدراسة إلى مهندسين جدد وبالتالي ينقلون مخاطر التمويل منهم إلى غيرهم والنتيجة المستقبلية واحدة: عدم قدرة هذه الفئات العلمية على تجديد تجهيزاتها اللازمة لإنجاز الدراسات وسعيها الدائم للهجرة من مكان لا مستقبل فيه لها ولا قدرة لها على الاستمرار فيه والبقاء على قيد الحياة وقيد الإنسانية.
اقرأ أيضاً: حاجة السوريين إلى عقد اجتماعي جديد- أيهم محمود
لا يعاني المهندسون فقط من هذا المصير بل تعاني منه أيضاً فئات علمية كثيرة لكن ما يميز معاناة المهندسين أمر آخر يلقي الضوء على مدى الخراب المجتمعي الذي وصلنا إليه عبر نقل الكتل المالية من الطبقة الوسطى إلى أيدي مترفين قلة عبر قوانين الفساد غير المعلنة، لدينا نخب مالية جاهلة لا تستطيع التمييز بين خط الحياة وخط الموت، يسعى أي كائن طفيلي في الطبيعة إلى المحافظة على وجود المستضيف له على قيد الحياة لاستمرار وجوده ذاته واستمرار قدرته على الحصول على خيرات المستضيف، ما يجري الآن في سوريا هو الانتقال من الآليات شبه الزراعية إلى نظام بداوة مالي صافي لا شائبة فيه تعكر أمر تصنيفه، في المنظومة الزراعية يستقر الفلاح في بقعة أرض ثابتة يكافح فيها من أجل استمرار اخضرارها واستمرار وجوده على قيد الحياة بسببها، في منظومة البدو الرحل يستقر الانسان في بقعة جغرافية ما حتى استنزاف كامل خيراتها ليرحل بعدها إلى مكان آخر دون أي استقرار أو أي محاولة لتنمية المكان الذي يعيش فيه، ما يجري الآن في العمل الهندسي خاصةً والعمل العلمي بشكل عام في سوريا هو استهلاك الأفراد وحين استنفاذ مدخراتهم وقدرتهم على الاستمرار يتم الانتقال إلى غيرهم، هذه الآلية ممكنة لو كان هناك تجديد للطبقة الوسطى لكن ما يجري حقاً هو استمرار نزيف هذه الطبقة باتجاه الفقر بل باتجاه العدم وهذا ما يقابل مزيداً من التصحر ومزيداً من الانتقال نحو نظام البدو الرحل.
بعض المهن العلمية مرتبطة بالقدرة المالية للشريحة المستهدفة في عملهم، الأطباء مثالاً لأن تحصيلهم المالي مرتبط بقدرة الطبقة الاقتصادية التي يريدون علاجها، رفع أجورهم خارج حدود إمكانات هذه الطبقة سيعني لاحقاً دمارهم الاقتصادي بسبب انتقال أعداد متزايدة منهم إلى خدمة طبقات اقتصادية أعلى ومع زيادة العرض عن الطلب سيخرج قسم كبير منهم من المنافسة وسيعجز عن تجديد أدواته والحصول على متطلبات حياته، نستطيع فهم معاناة هذه الفئات العلمية والتي ذكرنا الأطباء كمثال عليها لكن ماذا عن شريحة المهندسين، هل معاناتهم عائدة إلى ذات الآلية أم إلى خللٍ اجتماعي آخر؟.
اقرأ أيضاً: العجز وثقافة الإنكار- أيهم محمود
يستطيع مالك المشروع أن يجد مليار ليرة لتمويل مشروع متواضع هندسيا!، ويستطيع فرض نسبة أرباح ثابتة على زبائنه، ويستطيع شراء تجهيزات مبانيه بدفع نسبة أرباح ثابتة إلى مورديها ويستطيع أيضا شراء غذائه اليومي ودفع نسبة أرباح ثابتة إلى المتجر في حيّه وقبله إلى تاجر الجملة في الأسواق لكن عندما يصل الأمر إلى المهندس يريد تقليص أجوره لتبقى وفق أسعار ما قبل الأزمة دون القبول بمبدأ النسبة الثابتة التي يتقاضها هو شخصياً من زبائنه، هنا وعلى العكس من مأزق الطبيب الذي لا إرادة له فيه نجد مأزقاً ثقافياً، هنا نواجه ثقافة الطبقة المالية الجديدة التي وُلِدت في ظروف استثنائية قبل أن يكتمل نضجها الثقافي، إنها ولادة مبكرة قبل اكتمال الشهور التسع بكثير ولا يسعنا القول في نهاية هذا التوضيح البسيط سوى دعاءٍ ربما أصبح متأخراً جداً: ليحمي الله الجميع، ربما حقاً نحتاج جميعاً إلى معجزة.
اقرأ أيضاً: الذئبة الحمامية.. كيف يعيش السوريون المرض في يومياتهم؟ _ أيهم محمود