إقرأ أيضاالرئيسيةتقارير

بناء الاستقرار على رمال متحركة – الجزء الثاني

سناك سوري – أنس جودة
يحتاج الواقع السوري كما تحدثنا في الجزء الأول إلى نظرية ونموذج متكامل قائم بشكل رئيسي على التشاركية في اتخاذ القرار، ويهدف إلى ترسيخ الهوية والإنتماء، ويحفظ وحدة الأراضي، ويعيد بناء المجتمع السوري ويحقق المصالحة والتماسك بين مكوناته، كما يقدم نموذجاً اقتصادياً جديداً يعيد توزيع الثروة ويكون رافعة لجهود التنمية المتوازنة. وذلك باعتماد حلول على المستوى المحلي متقاطعة مع بعضها برؤية وبرنامج وطني متكامل.
اللامركزية الإدارية- التنمية المحلية والتماسك المجتمعي
المدخل الأول والأهم لهذا البرنامج هو البدء بتكريس مفهوم اللامركزية الإدارية الموسعة، وإشراك المناطق في عملية اتخاذ القرار والتنمية عبر صناعة نموذج قائم على المزاوجة بين هذا المفهوم ومفهوم التشاركية في الإدارة والموارد.
أي أن المطلوب اليوم بكل وضوح هو محاولة إيجاد الصيغة الأمثل لنموذج الإدارة اللامركزية وتزاوجها مع صيغة التشاركية بين قطاعات المجتمع الثلاث (الحكومي والخاص والمدني)، فمن شأن هذا النموذج أن يشكّل القاعدة للإجابة على الاحتياجات الرئيسية للسوريين في التنمية والمشاركة في صنع القرار، كما من شأنه أن يساهم بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ويواجه أخطار التقسيم ويضمن عودة أجزائها المتناثرة والخاضعة لسيطرة ميليشيات عسكرية (محلية أو خارجية) للجغرافيا السياسية الموحّدة، إضافة لوضع اللّبنات الأولى لشكل الحكم الديموقراطي المستند للمشاركة الواسعة في الإدارة والحكم المجتمعي من خلال مجالس الإدارة المحلية المنتخبة وذات الصلاحيات الواسعة، وذلك بنقل كافة الصلاحيات الخدمية والتنموية للمحافظات وإبقاء الأمور السيادية للدولة المركزية، كما يؤمن الرقابة الفعالة من قبل المجتمع المدني المحلي على مؤسسات اتخاذ القرار فالمدافعة والمناصرة على المستوى المحلي أثبتت جدواها في السنيين الماضية أكثر من كل وسائل الضغط والتظلم التقليدية .
عملياً يحقق هذا النموذج عدة أهداف متكاملة :
* خلق قيادات سياسية مجتمعية لها جذور في المجتمع المحلي، تعمل على الأرض، قادرة على تحمل المسؤوليات، يؤمن بها المواطنون وتمثل مصالحهم ليس فقط في إطار حمايتهم من الفساد وتأمين الخدمات، بل للحد من صلاحيات السلطة المركزية، بما يسمح بتجميع القوى المحلية ضمن كتل سياسية فعالة قادرة على الانتقال الى العمل على المستوى الوطني، فالسنوات الطويلة من التصحير السياسي والاجتماعي للشأن العام، واحتكار العمل السياسي ضمن حزب واحد أفقد البلاد وجود حوامل اجتماعية وسياسية قادرة على ملء الفضاء العام والتعبير عن مشاكل الناس والمشاركة في صنع القرار، ولايعيب هذا التوجه أن تأتي الانتخابات المحلية في الفترات الأولى بشخصيات ربما بعيدة عن العمل المحلي ولاتمتلك الخبرات اللازمة لأن تصحيح نتائج الانتخابات يكون بإجراء المزيد من الانتخابات وبترسيخ التجربة وتمكين الناس من تحمل مسؤوليات اختيارهم وتغييره في الجولات التالية، ولاتكون قطعاً بالعزوف عن التجربة والعودة لإعتماد آليات التعيين والترشيح القائمة على المحسوبيات والولاءات التي أثبتت فشلها الذريع.
* الهدف الهام الثاني يأتي من أن اللامركزية الإدارية – في إطارها العام- هي إحدى أدوات فصل السلطات، شأنها في ذلك شأن فصل السلطات التنفيذية عن السلطة القضائية أو التشريعية، وبذلك فإن اختيار الشكل الأنسب من اللامركزية هو أحد ضمانات عدم احتكار السلطة مستقبلاً وبناء الثقة بمؤسسات الدولة.
* الهدف الثالث هو أن اللامركزية الإدارية هي السبيل الأمثل لتثبيت دعائم الوحدة الوطنية، والبدء بمصالحات اجتماعية حقيقية بين مكونات المجتمع السوري التي نشأت نزاعات بين بعضها البعض، فمن شأن نموذج فعال للامركزية أن يشعر الأفراد بضرورة المشاركة في إدارة شؤونهم وتطوير مناطقهم بطريقة تؤكد على وحدة المصالح بينهم.
* اللامركزية الإدارية هي السبيل الأمثل لتحقيق إنماء متوازن في المناطق المختلفة، خصوصا في ظل صعوبة إدارة المشاريع مركزيا وضعف الموارد في الفترة القادمة. فعن طريق إعطاء المزيد من الصلاحيات لمجالس الإدارة المحلية في إدارة شؤونهم وتقدير احتياجاتهم وتوجيهها بالشكل الذي يناسب احتياجات كل منطقة من ناحية تضررها على المدى القصير، وحاجاتها التنموية على المدى المتوسط والطويل يمكن الوصول إلى تنمية إقليمية متوازنة كاستجابة فعلية لردم الفجوة التنموية الكبيرة بين المركز والأطراف، وآثارها الاقتصادية والاجتماعية المتولدة عنها من فقر وبطالة، وانخفاض في المستوى التعليمي والرعاية الصحية التي كانت أحد أهم العوامل في اندلاع الاحتجاجات، وتجييش الشباب السوري في المناطق المتأخرة تنموياً للمشاركة في الأعمال المسلحة، فضلاً عن الإقبال الشديد للانخراط في تنظيمات أصولية عابرة للحدود وغير معترفة بالهوية السورية.
* المستوى الأمثل لتطبيق مبدأ التشاركية بين القطاعات الثلاث (الحكومي-الخاص-المدني) هو المستوى المحلي، خصوصاً إذا تمسكنا بضرورة تنفيذ سياسات إعادة البناء عن طريق التشاركية مع القطاع الخاص. فتنفيذ عقود إعادة الإعمار على المستوى المركزي يعني بالضرورة عقوداً مركزية ضخمة تنفَذ مع جزء ضيق من القطاع الخاص يسيطر عليه حيتان الاقتصاد، أي إعادة إنتاج دورة الفساد والاحتكار التي كانت سبباً رئيسياً في الاحتجاجات، بينما توزيع العمل على المحليات يسمح بدخول متوسطي رأس المال، ويفتح مجال التنافسية بشكل أكبر على تنفيذ أعمال مدروسة وملائمة لاحتياجات السكان، ويجعل الرقابة على تنفيذها ومتابعتها جدية فعالة، فالمجتمعات المدنية المحلية هي الوسيلة الأمثل للرقابة والمتابعة.
إن الإطار العام الذي من المفترض العمل عليه اليوم هو الوصول إلى إمكانية وجود مجالس محلية منتخبة بالكامل تملك صلاحيات واسعة وإمكانات حقيقية لتولي مهام التخطيط والإدارة والخدمات وتحقيق متطلبات التنمية في مناطقها، دون الإخلال في تبعيتها في الأمور السيادية والسياسات العامة للحكومة المركزية التي تمثل القاسم المشترك لمشاركة كل الشعب من كل أنحاء البلاد في اتخاذ القرارات المصيرية للمجتمع بشكل عام، ويحافظ في هذا الإطار على إدارة موارد الدولة والتخطيط الاقتصادي بطريقة مركزية، مع وجود هامش واسع للمشاريع الاقتصادية المحلية، ويكون في يد هذه المجالس صلاحيات إقرار الموازنات وإدارة الموازنة المستقلة، وتشكيل المكاتب التنفيذية والرقابة على عمل الأجهزة الحكومية المحلية.
ويشكل القانون 107 رغم العديد من الثغرات فيه إطاراً جيداً للعمل في مجال اللامركزية الإدارية. ولو تم العمل به وتفعيل عمل اللجنة الوطنية لللامركزية الإدارية المشكلة سنداً لهذا القانون، لكانت مخمِّداً فعالاً للوضع المتدهور الحالي في كثير من المناطق. لذلك فإن نقطة البداية اليوم يجب أن تبدأ من هذه اللجنة، حيث من الممكن أن يتم تشكيل لجنة مشتركة (بموجب مرسوم) تمثًّل فيها الحكومة والقوى السياسية المعارضة والمنظمات المدنية والخبراء لإدارة المشروع ضمن مدة محددة وسريعة (ستة أشهر)، وأن تتمتع اللجنة بصلاحيات واسعة لتحقيق مهمتها المتمثلة في إيجاد أفضل صيغة للامركزية الإدارية ووضع الآليات التنفيذية لها. وتعمل اللجنة على إجراء استشارات موسعة وورشات تخصصية مع القوى السياسية والمحلية المختلفة، ولها الاستعانة بالخبراء اللازمين لتنفيذ المهمة الموكلة لها، ومن المهم أن يترافق عمل اللجنة مع حملة إعلامية واسعة لتعريف السوريين بالمفهوم الحقيقي لموضوع اللامركزية، وتفريقه عن المفاهيم الأخرى، كما لابد من عدد من اللقاءات والورشات المحلية في جميع المحافظات والبلديات للتعريف بالمبادئ العامة للامركزية الإدارية الموسعة والغرض منها.
الثابت الوحيد في حالة عدم الاستقرار هو رؤية سورية لبناء الإنسان.
(رغم أن سوريا تمتاز بإرثها الحضاري الضارب في التاريخ، إلا أن السوريين لم تتسن لهم الظروف الصحية والحرية اللازمة لبناء دولتهم وصوغ عقدهم الاجتماعي، فلم تكد البلاد تنال استقلالها حتى عصفت بها سلسلة الانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي حتى وصول حزب البعث إلى السلطة مقدماً أيديولوجيته الفكرية والاقتصادية والسياسية على غيرها من الأفكار والنظريات، وعلى الرغم من عدد من المحاولات لصناعة استراتيجيات وسياسات طويلة الأمد إلا أنها ظلت قاصرة على ردود الأفعال، واعتماد حلول اللحظة الأخيرة بدلاً من صياغة برامج استراتيجية تتفق مع واقع البلاد وحاجات السوريين البعيدة المدى .
كل هذا أنتج واقعاً هشاً للدولة والمجتمع، ظهرت آثاره المدمرة عند أول أزمة حلت بالبلاد عبر الانقسامات الأفقية والعمودية ضمن المجتمع السوري وظهور الروابط ما قبل الأهلية من انتماءات عصبية طائفية وعرقية وعشائرية وعائلية تنذر باستمرار التشظي وعدم وقوفه حتى عند الفرز السائد بين موالي ومعارض.
ورغم كل الدمار والتخريب على المستوى الاجتماعي والاقتصادي إلا أن الظرف الحالي يتيح فرصة لخلق حركة مختلفة، فكافة الأطراف الاجتماعية مرهقة من عملية الصراع المستمر منذ ست سنوات، كما أن الحلول السياسية على المستوى الدولي لا تملك استمرارية واضحة، إلا أن الرغبة في إنهاء الأزمة وتحقيق الاستقرار أصبحت القاسم المشترك الذي يدفع كافة الأطراف الدولية والاقليمية والمحلية.
وفيما تطرح الحلول المختلفة لمصير سوريا ومستقبلها على العديد من طاولات البحث واللقاء في سوريا وخارجها، من قبل سوريين وغير سوريين، فإنه من الأولى أن يقوم السوريون بوضع رؤى لمستقبلهم بحرية وموضوعية تسمح بأن تكون تلك السياسات معبرة وقابلة للتطبيق بحيث تشكل فرصة لإعادة بناء الوطن السوري، لتكون هذه الدولة مصممة بطريقة مؤسساتية تضمن تداول السلطة وتحد من تحكم أي فريق لوحده بمفاصل الحياة اليومية للسوريين و تكون سياساتها الاقتصادية والتعليمية والصحية وكل ما يتعلق بإدارة الشأن العام ناتجة عن مشاركة واسعة من السوريين بمختلف شرائحهم وانتماءاتهم.)
قد لا ينقص السوريون خططاً لتناقش مستقبلهم بقدر ما ينقصهم إدارة شؤونهم والتخطيط لها وأن تكون هذه السياسات تلامس اهتمامهم، ولاتتحقق هذه الإدارة المباشرة إلا بإيجاد آليات مناسبة لاختيار الممثلين وأن يكون تطبيق السياسيات أقرب مايكون للأرض وللواقع، وأن يكون الهدف النهائي والغاية القصوى لهذا السياسات هو بناء الإنسان الحر المنتمي لوطنه والقادر على النهوض من النكبات.
استمرت الحرب اللبنانية بعد انتهاء مرحلة السنتين الأوليين ثلاثة عشر عاماً أخرى، ورغم توقف الحرب مازال المجتمع اللبناني يعيش حالة الانقسام القابل للانفجار في أي لحظة إذا ما اتخذ طرف ما قراراً بتفجير الأوضاع، لذا علينا أن نتعلم من تجاربنا ومن تجارب الآخرين، وأن نعمل على تحصين البيت الداخلي وبناء الأمة والدولة والهوية السورية ضمن عقد اجتماعي متوازن يكون الجميع أطرافا فيه، فربما تكوت الصراعات القوية والرمال المتحركة قادرة على هدم مدن وقرى وتحطيم مؤسسات، ولكنها أبداً لن تستطيع تدمير إرادة الإنسان والتماسك المجتمعي الحقيقي المبني على الشعور بالانتماء والمصلحة المشتركة والرضى بالعقد الاجتماعي السياسي الاقتصادي الذي يكون هو -وليس التوافقات الدولية- أساس الاستقرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى