العلمانية الانتقائية- أيهم محمود
علمانيةٌ بنكهة الجهل المقدس وبنكهة العجز وبنكهة الهزائم المتلاحقة التي لم ولن تتوقف
سناك سوري – أيهم محمود
للعلمانية عندنا خصائص فريدة تجعل منها حالة دراسية تستحق البحث، فهم آليات حضورها ربما يقود إلى فهم كثير من مشكلاتنا اليومية التي استعصت على العلاج.
علمانية نخبنا في معظم الحالات انتقائية والاستثناءات جد قليلة، نجد نخباً ذو ثقافةٍ رفيعة وعقلٍ متقد يشتعل ذكاءً يحلل بيانات الجهل والتجهيل المستشري في مجتمعنا ويكتشف ثغراتها المنطقية ببراعةٍ فائقة ليصيب الخصوم الجهلة هم ومثقفوهم في مقتلٍ لا شفاء منه، هذه البراعة والحزم والحسم في مقارعة الخصوم تتحول إلى ميوعة وحالة تملص أميبية عندما يتعلق الجهل بالانتماء العشائري أو الطائفي للعلماني الفريد المتميز فتجده يستحضر ذكاءه النوعي لخلط الأوراق وإضاعة هدف النقد الموجه إلى انتمائه البدائي وهذه حالةٌ نادرة أيضاً مقارنةً بنسبة من ينخرط في دفاعٍ مستميت عن جهل القبيلة بألفاظ علمية وفلسفية مستقاة من كتب ظهرت في الأساس لمقاومة هذا الجهل المقدس.
هذا الخراب الذي نشاهده معمماً حولنا وليد تلك النخب وعلمانيتها الانتقائية التي تستهدف جينات ثقافية محددة دون غيرها، هي مستضدٌ نوعي يستهدف جراثيم بعينها فقط ويترك ما هو أخطر منها ينخر في جسد المجتمع دون أن يجد من يقلل من حجم تكاثره وانتشاره وهذا أضعف الايمان، علمانيةٌ بنكهة الجهل المقدس وبنكهة العجز وبنكهة الهزائم المتلاحقة التي لم ولن تتوقف، عجزٌ عن التغيير واحتلالٌ لمساحةٍ كان من المفترض أن تكون نقطة انطلاق نحو مستقبلٍ أفضل، دور النخب في المجتمعات البشرية دورٌ مهمٌ وخطير فهم إما أن يكونوا رافعةً تساعد على ارتقائه أو حجراً ثقيلاً يذهب بمجتمعاتهم إلى الحضيض، نخب الطائفية والعشائرية الانتقائية المنتشرة بكثافة في مجتمعنا هي من النوع الثاني لذلك كان خرابنا كبيراً وقاسياً وتطورنا موءوداً حتى قبل أن يبدأ.
اقرأ أيضاً: العبودية والتحرر الواقعي- أيهم محمود
في مقابل تلك النخب التي لا تشعر بعلمانيتها إلا باتجاه الخصم الديني والطائفي توجد نخب حقيقية لكنها نخب عاجزة لخصت حالتها المقولة التي انتشرت في بداية عام ٢٠١١: “إننا نلحق الشارع!”, نخبٌ اعتقد قسمٌ فاعلٌ منها أن الشارع بتصرفاته الجمعية العشوائية منهجٌ تامٌ متكاملٌ يعفيها من مهامها الخطيرة والقاسية أقل وصفٍ لها أنها نخب عاجزة وأما الوصف الذي تستحقه فعلاً: “نخبٌ خائنة لوعيها ولدورها التاريخي في مجتمعاتها”، لا توجد كلماتٌ أقل حدة يمكن استخدامها لوصف حالتهم هذه بعد أن خبرنا بأنفسنا الخراب المعمم الذي وقعنا جميعاً فيه نتيجة الفراغ الذي أحدثوه بتخليهم عن مهامهم في لحظةٍ خطيرة وحاسمة.
في مستنقعٍ في دولة آسيوية وصفت مجلة العلوم في مقالة مفصلة طريقة اصطياد أفعى مائية صغيرة لفريستها، تدرك الأفعى أن لحاقها بالسمكة سيضعها أمام فرصة ضئيلة للحصول على غذائها لذلك طورت آلية غريزية تنقض فيها بفمها المفتوح على نقطة وهمية في الفراغ لتقبض على السمكة إذا تابعت الفريسة حركتها ضمن مسارها الحالي وسرعتها الحالية، استطاع عقل الأفعى بحجمه الصغير مقارنةً بحجم دماغ الانسان القيام بعمليةٍ حسابية مستقبلية تتنبأ بمسار السمكة وسرعتها فقبضت عليها في نقطةٍ مُتخيلة غالباً ما تنجح فيها بالحصول على غذائها، ربما علينا استقدام هذه الأفاعي إلى شرقنا كخبراء لتعليم من لدينا كيف يطورون موقفاً مستقبلياً يلتقط الشارع أثناء حركته في نقطة تاريخية ما بدل الاكتفاء باللحاق به.
اقرأ أيضاً: هروب المجتمعات من ضميرها_ أيهم محمود
كان يكفي تطوير رؤية مستقبلية حقيقية ليعترف الناس الذين أنهكتهم العشوائية والتخبط بهم لكن الجموع وجدتهم في تخبط أكبر من تخبطها ففقدت الثقة بهم، بين حجري النخب الوهم: نخب العلمانية الانتقائية والنخب التي ما زالت تنتظر لحظتها التاريخية بدل أن تصنعها بيدها تتحطم أحلام وفرص الشرق الذي يسير إلى الوراء وإلى الطفالة المرضية وإلى الغيبيات وإلى الماورائيات، هذا النكوص الخطر باتجاه الماضي لايجد من يردعه لذلك المهمة الأخطر الآن هي إعادة صياغة اللحظة الراهنة وتكوين طلائع نخب جديدة تستبدل المزيفة وتستبدل أيضاً تلك الحقيقية لكن العاجزة، الأولى يجب فضحها وفضح زيف خطابها وأما الثانية فعلينا احترامها مثل كل الأعمال العظيمة التاريخية بوضعها في المتحف المناسب لهويتها وتنظيم زيارات دائمة لرؤيتها لكي لا ننسى تلك الأزمنة التي مرّت علينا ولكي لا تتكرر تلك الأزمات التي عشناها.
اقرأ أيضاً: الذئبة الحمامية.. كيف يعيش السوريون المرض في يومياتهم؟_ أيهم محمود