الحب المشروط في نتائج امتحان البكالوريا السورية – أيهم محمود
بتصرفاتنا الخاطئة نحن نقتل علماء المستقبل، نقتل الفنانين والمبدعين، نقتل الصناعيين
بين منشور “ديالا غريب”، ومنشور “رفعت رأسنا” في صفحات الفيسبوك مساحةٌ لتناقضات أكبر بكثير من قدرتنا على تخيل التفاصيل، بين منشور “ديالا” ومنشورات الفخر الفيسبوكي، ملايين الليرات، وجيوش من الأساتذة الخصوصيين، وفي الحالتين، حالة ديالا، وحالة المفتخرين، تم إصابة الهدف الخطأ، العلم هادئ لا يثير كل هذه الضجة، وحدها السباقات تفعل ذلك، من سباق السيارات، حتى سباق الهجن.
سناك سوري-أيهم محمود
بين ديالا وزميلاتها وزملائها قصص أخرى، قصة طلاب تتمايز مناطقهم لأسباب عجيبة، طلاب يرون الكهرباء لساعات أطول لأسباب جغرافية، وأحياناً طبقية، لكن الكل في السباق إلى العلامة الهدف وإلى الفوز بالمنافسة بدل أن يكون السعي الجماعي باتجاه تغيير الواقع المزري الذي نعيشه، كم عدد المخترعات والصناعات والابتكارات في المنطقة كلها وليس في سوريا وحدها، كم براءة اختراع تسجلها شركاتنا، كم عدد الابتكارات الجديدة والأبحاث في جامعاتنا، هو سباق بالتأكيد لكن ليس له أي قيمة علمية على أرض الواقع.
نسجن أولادنا في أوهام التفوق، نستخدمهم لكيد الأعادي، نزرع في عقولهم ونحن نستخدمهم كأدوات للفخر في مواقع التواصل الاجتماعي المعادلة التالية: “أنا محبوب من قبل والدي لأني متفوق”.
المشكلة ليست في هذه المعادلة بل في عكسها، والتي يمكن استنتاجها ببساطة عبر قلب حدودها، “أنا لا قيمة لي إن لم أحقق أحلام والدي، أحلامهما وأحلام الأقارب وليس حلمي الخاص”.
يجب على الأب والأم توفير الحب غير المشروط لأولادهما، الحب المتساوي والفخر المتساوي، لولدين أحدهما متفوق والآخر موهبته في مكان آخر لكنه لا يصلح من وجهة نظر الأهل للفخر والتباهي.
قد يصبح الأخ الأقل تعليماً صناعياً ماهراً مبدعاً في عمله يؤثر في تطور مجتمعه أضعاف تأثير الطبيب والمهندس وبقية الاختصاصات العلمية الأخرى التي معظم خريجيها لم ينتجوا في اختصاصهم مقالة واحدة، ولم يتمكنوا حتى من صناعة قطعة بسيطة يحتاجها مجتمعهم.
معظم العاطلين عن التفكير، والعاجزين عن الاستفادة من العلوم التي درسوها هم من أصحاب الإختصاصات العالية الذين تفاخر بهم أهلهم في أوقات سابقة.
لا يجب أن نقتل أولادنا بالحب المشروط، وبالتمييز بينهم بهذا الشكل القاسي واللا إنساني، لأننا بذلك نقتل علماء المستقبل، نقتل الفنانين والمبدعين، نقتل الصناعيين المهرة، المزارعين، نقتل كل ما هو جميل ومفيد من أجل لحظة فخر واحدة، نسرق خيرة شبابنا ونحصرهم في كليات محددة معدة للتهجير لاحقاً، بينما نحتاج فعلاً كل الطاقات وفي اختصاصات متنوعة للنهوض بهذه البلاد.
اقرأ أيضاً: الهروب الكبير إلى الأمام – أيهم محمود
ذاك الرصاص الذي يحتفل به أحدهم مع إمكان قتل آخرين من أجل فرحة سباق، فهل صنعت هذه السباقات غير أفواج هجرة العقول، وهل أبدعت هذه العقول في الداخل؟ أم ترى السوريين يفتخرون بابن بلدهم في مؤسسات العالم بعد الهجرة، لم ينتصر السوري على عكس توقعات الكثيرين، بل انتصرت المؤسسة التي أخرجت إبداعه، ولو بقي في مكانه لما استطاع تحقيق شيء.
لا يجب أن نقتل أولادنا بالحب المشروط، وبالتمييز بينهم بهذا الشكل القاسي واللا إنساني، لأننا بذلك نقتل علماء المستقبل
قصة ديالا، ذلك الكائن الجميل الذي يستحق تلك الضجة، تتحدث أيضاً عن التمييز بين الأولاد على مستوى الدولة التي توزع خدماتها بشكل غير متساوي، لماذا يجب على طلاب أن يعانوا من البرد والظلام، في مقابل طلاب آخرين لديهم فرصة أكبر للكهرباء، وفرص أكبر للدفء، وفرص أكبر للتعليم، لا أتحدث عن الفروق المادية والطبقية بين الأفراد، بل أتحدث عن توزيع الخدمات العامة -خاصةً الكهرباء- على المواطنين الذين نفترضهم -لانخفاض وعينا وإدراكنا- أنهم متساوين فيما بينهم.
أسئلة البكالوريا السورية تبرز كل عام، لكن لا أحد يجيب عن مدى مساهمة هذه الاحتفالية السنوية في تطور بلدنا العلمي والصناعي والزراعي.
هل نحن نتطور فعلاً؟
والسؤال ليس للدولة السورية، بل لهذا المجتمع العظيم الكريم الذي ما زال يصر على استخدام الفيسبوك لقهر الآخرين، ماذا لو كان لدينا في بيوتنا مبدعين في مجالات أخرى لكنهم يرون بأعينهم أنهم لا قيمة لهم ولما يملكون من جنين إبداع، ماذا لو تعثر ابننا في عام واحد فقط لكنه يرانا نخجل منه أمام تدفق سيل الصور الزرقاء في الفيسبوك، ما يعيشه السوريون حاليا استحقوه بجدارة واقتدار، هذا الواقع صناعة لأياديهم وعقولهم، ولو أن معظمهم ما زال لا يرغب في الاعتراف بذلك.