الرئيسيةرأي وتحليل

الجهل المقدس: الإيمان الغيبي بقدرة العلم والعلماء – أيهم محمود

الحصول على الاحتياجات دون جهد أمر لم ولن يتحقق للإنسان سوى في رحم أمه

تواجه البشرية منذ العقد الأخير في القرن الماضي، جهلاً خطِراً من نوعٍ خاص محوره الإيمان بالعلم وبقدرات العلماء، على تلبية الرغبات الطفولية المتزايدة للبشر.

سناك سوري-أيهم محمود

من الخطأ الاعتقاد أن الإيمان بالغيبيات والخوارق محصور بالمسائل الدينية فقط، نشهد في العصر الحالي ردة قوية نحو الجهل العام والمعمم عبر تعطيل ملكات العقل وتعطيل آليات البحث العلمي واستبدالهما بالإيمان الغيبي بالعلم والعلماء، جوهر الجهل هو تعطيل العقل النقدي وليس نوع الفكرة التي نستسلم كلياً لها دون أي نقاش أو تفكير.

نعاني في القرن الواحد والعشرين من مشاكل مزمنة خطرة في كوكب الأرض وصلت إلى حد تدمير البيئة التي تدعم حياتنا مع تزايد احتمال وصول البشرية إلى مجاعة عالمية يفنى فيها المليارات، يُنذرنا العلماء بالخطر الكبير الوشيك لكن البشر وأخص بالذكر أصحاب المهن العلمية وحملة الشهادات الجامعية منهم، يعتقدون بإيمانٍ غير قابلٍ للنقاش أن العلماء سيتوصلون إلى حل لجميع هذه المشكلات في الوقت المناسب.

يعتقدون أيضاً بأن المستقبل يحمل لهم مزيداً من الرفاهية ومزيداً من الاختراعات التي تجعل الجنة المُتَخَيَّلة واقعاً مُعاشاً، عبر الحصول على معظم احتياجاتهم بأقل جهدٍ ممكن أو حتى دون بذل أي جهد، لم يتحقق هذا الأمر للبشر إلا في أرحام أمهاتهم ولمدةٍ استمرت بضع أشهرٍ فقط، هذه المدة التي ستؤثر لاحقاً على تفكير الإنسان مولدةً الحنين إلى هذه المرحلة التي لا يمكن بالتأكيد تكرارها، هي نزعةٌ طفولية، والأهم من هذا التوصيف لها عدم إمكانية تحققها في الواقع.

اقرأ أيضاً: أوهام الإنجازات العظيمة .. سِجن الحكومات – أيهم محمود

لم يستطع العقل البشري تجاوز أزمات الطفولة الأولى إلا في قشور وعيه الظاهر فقط، ينظر البشر إلى الإله وإلى بقية الكائنات المقدسة في مختلف الأديان والمعتقدات الموجودة في كوكب الارض، على أنها أدوات لتحقيق الرغبات البشرية دون بذل الجهد، يريد الكثير من البشر أن يتفرغ الإله لتلبية رغباتهم الصغيرة بدل أن يخضعوا هم لقوانين الكون التي وضعها الإله ذاته، هم يطالبونه رجاءً بخرقها من أجل تحقيق المنفعة المباشرة السهلة دون تقديم الجهد المناسب ودون استخدام العقل في البحث والنقد والتفكير، هذا هو جوهر عطالة الأكاديميين وجوهر توقف عقلهم عن التفكير.

تم استبدال الإله هنا بالعلماء ومراكز الأبحاث، حسناً سوف يتوصل العلماء إلى حلول لمشاكلنا الشخصية، وسنستمر في تحقيق رفاهيةٍ متزايدة دون بذل جهدٍ كبير، بدل أن يحفز إنذار العلماء العقول على التفكير وعلى المشاركة الفاعلة في ابتكار الحلول التي تمنع أو تخفف من آثار الكارثة البيئية القادمة نرى المزيد من الإيمان الغيبي بحركة العلم وقدراته الاستثنائية.

تبلغ الأزمة في الشرق الأوسط ذروتها مع الانتشار الكثيف للثقافات المشبعة بالغيبيات والمشبعة أيضاً بالأحكام العاطفية، العاطفة سيدة المشهد هنا في الموضوعات الدينية وكذلك الأمر في المواضيع العلمية، حتى الإلحاد هنا في معظمه وفي جوهره العميق عاطفة، مجرد ردة فعل ضد مجتمع أو ضد ثقافةٍ ما، هذا المسار العاطفي يعيد إنتاج الظاهرة الدينية السلبية سواء كان الأمر إلحاداً عاطفياً أو إيماناً لا دليل واقعي على صحته سوى الدعايات السياسية للدول، التي تستخدم قضية العلم والاختراعات في تلميع صورة أنظمتها السياسية.

اقرأ أيضاً: ما هو المال وماسبب وجوده؟ – أيهم محمود

لقد كبرت كرة الوهم كثيراً حتى أصبحت ديناً قائماً بذاته، أصبحت جميع التيارات هنا متساوية في فن تعطيل العقل بشتى أنواع المعتقدات الاتكالية وبعدها يأتي البحث عن طبقةٍ من الكهنة، تُفكر بدلاً عنا في مسائلنا الصغيرة اليومية لتدلنا على الطريق القويم، لم يعد الإيمان ينبع من جذره الأصلي: “رحلة ذاتية خاصة بالفرد فقط تتطلب الجهد والمثابرة واستمرار التفكير”، بل أصبح استسلاماً تاماً للإنقاذ المُتَخَيٌَل الذي سيأتي في اللحظة الأخيرة، قبل الموت بعدة دقائق ربما.

للأسف لا الدقائق، ولا حتى السنوات تكفي لتحرك البشر وتوجههم نحو إيقاف تدهور صحة عالمهم، شعار بعضهم “العلمي” الآن:

“لماذا نُجهد وعينا في التفكير وهناك من يفكر عنا ومن يسهر من أجل تحقيق كل رغباتنا البشرية، إنهم العلماء الذين نؤمن صدقاً بهم، ونؤمن أيضاً بقدرتهم على إنقاذنا وإنقاذ كوكب الأرض من كافة الأخطار التي قد تدمر أسس حياتنا كما نعرفها الآن”.

يشبه الأمر حالة مشجعي فرق الألعاب الرياضية الذين لم يمارسوا أي نوع من الرياضة في حياتهم يفيد أجسادهم المنهكة بالعطالة والجمود، هم لا يعرفون غير الصراخ والاختلاف والتصفيق، كذلك العقل حين تتعطل وظائفه الرئيسية في الشك الدائم والبحث وابتكار الجديد، يصيبه الصدأ والتكلس وينحصر عمله بالاتكال الغيبي على فعالية نشاط الآخرين.

اقرأ أيضاً: تاريخنا الذي يتغنى به البعض يشبه واقعنا اليوم – أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى