الرئيسيةفن

“المصابيح الزرق”.. حكايا الحروب المتشابهة والتاريخ الذي يعيد نفسه

المختار “جرجس” ظلّ يعيد الكلمة ذاتها طيلة خمس سنوات (نحن في ظروف استثنائية) وعليكم أن تتحملوا الموت والجوع والفقر!

سناك سوري-عمرو مجدح

«كان شعرها الأسود المتحلق في استدارة متماوجة على كتفيها المستقيمين، يكسب قامتها الفارعة مزيدا من الأناقة ويجعل وجهها شبيها بوجه مريم المجدلية».

هكذا يصف “حنا مينا” “رندة” حبيبة “فارس” بطل روايته الأولى “المصابيح الزرق” التي كتبها في العام ١٩٤٥ وقدمت الدراما عنها مسلسل العام 2012 سيناريو وحوار “محمود عبدالكريم” وإخراج “فهد ميري” وبطولة كل من “محمد الأحمد” و”سلاف فواخرجي” ومنذ بضع سنوات أدرجت الرواية ضمن المنهج السوري لطلبة “البكالوريا” الثالث الثانوي الأدبي والعلمي ويلجأ الكثير منهم لمتابعة المسلسل وهو يصور لهم الرواية بصورة بصرية ويحول الشخصيات إلى لحم ودم.

ويمكن ملاحظة تعليقات الطلبة من خلال مواقع التواصل الإجتماعي واليوتيوب ونقاشهم حول الرواية والمسلسل وهنا يبرز ثلاثي مهم المناهج التربوية، الرواية الأدبية والفن والتواصل الذي يجب ألا ينقطع بينهم وأن تدرج أعمال أدبية أكثر في المناهج وأن تكون الرواية دائما حاضرة من خلال الدراما التلفزيونية والسينما.

مايميز رواية “المصابيح الزرق “عن سواها من أعمال “حنا مينا” هو تعدد الشخصيات والنماذج وهي تصور أحياء مدينة اللاذقية عام ١٩٣٩ مع بدء الحرب العالمية الثانية يصف الكاتب حي القلعة الذي تدور فيه أحداث الرواية قائلا: «واقع على كتف هضبة كبيرة تنتشر البيوت والأكواخ في سفحها وترتفع معها صعودا الى القمة».

يتابع وصف الدار الذي يسكنه “فارس” ووالديه مع مجموعة من العائلات الفقيرة والبسيطة قائلا: «متعدد الغرف كان فيما مضى خانا ويستطيع المرء من الوهلة الأولى أن يلحظ مرابط البهائم ويرى مجالس التجار والمسافرين».

يوم إعلان الحرب صبغت تلك الليلة “أم فارس” مصباحها باللون الأزرق كما كنّ النسوة يفعلن في هذه الفترة الزمنية في حال إعلان الحرب لتوحي المصابيح بمنظر المنارة من بعيد.

يستعرض الروائي من خلال الأحداث تعايش وتفاعل الشخصيات المختلفة مع بعض والاستعمار والنضال وتبرز الشخصية الانتهازية من خلال مختار الحي “جرجس” الذي يصفه “مينا” قائلا : «كان جرجس المختار ذئبا وحملا في وقت واحد يستطيع عند اللزوم أن يعكر الماء ويتهم سواه بتعكيرها وقد كانت الحرب خير فرصة جاءت بعد انتظار ومنذ اليوم الأول صارحهم برأيه فيها وقال “الظروف استثنائية” وظل يردد هذه العبارة طوال خمس سنوات حتى حفظها الناس وأصبحوا إذا رأوه قالوا جاء الظروف الاستثنائية وكانت هذه الظروف تعني السكوت عن كل شيء الغلاء والبطالة وفقدان الخبز والكاز واذا سكت الناس ارتاح هو واكتسب ثناء الذين أعلى منه واذا اشتكوا نال هو اللطمة الأولى».

اقرأ أيضاً“أديب البحر” يغير عنوانه… الراية الشيوعية في وداع “حنا مينة”

أما “فارس”بطل الرواية يبدو شخصية مركبة ومتغيرة يعيش صراع نفسي دائم لديه الكثير من الصفات الايجابية وكم هائل من الأخطاء قد تكرهه وتتعاطف معه، لم يعرف سوى الفقر الذي كان يطل على كل نوافذ حياته وقفزت في احدى الأيام بعقله تلك الفكرة المجنونة وهي تجره نحو الحرب في “ليبيا” ذلك البلد البعيد الذي يجهل حتى موقعه على الخريطة.

«لا شيء في ليبيا سوى الحرب، أما أن تقتِل أو تقتَل والنتيجة واحدة. لي حبيبة أريد الزواج بها، فماذا تفعل بي إذا لم أوفر لها المال؟ ولماذا نحب إذا لم نفكر بالزواج»، تلك كانت كلمات “نجوم” التي وسوست وسكنت عقل “فارس” وجعلته يقول لنفسه : «هذا صحيح، المال والزواج ورندة؟».

يحكي “الراوي” وهو يصف الصراع الداخلي الذي يدور بين “فارس” ونفسه قائلا: «كان يعرف أن التطوع مع الفرنسيين ليس بالأمر المستحب لكنه ليس جريمة وهو جندي ضد الألمان وليس ضد السوريين لن يحارب أبناء بلده إذا نشب قتال بين الفرنسيين وبينهم ثم هو ذاهب الى ليبيا ولن يبقى في سورية ولو كان باقيا لما تطوع وقد أخطأ الآن يشعر أنه أخطأ لكن الظروف هي التي أرغمته على ارتكاب هذا الخطأ».

انتهت الحرب العالمية الثانية وعمت الأفراح في البلاد وأزالت النساء الطلاء الأزرق عن المصابيح والنوافذ وبعد انتهاء الأفراح طافت مظاهرات مطالبة بالجلاء وبتحقيق الوعود التي قطعها الفرنسيون وتدفق الجنود من البحر والبر عائدين من الحرب الى بيوتهم ولم يكن “فارس” بينهم وبقيت “أم فارس” وحدها تقف على الشاطئ تنتظر أن تطل سفينة ما تحمل على سطحها ابنها لكن “فارس” قتل في الحرب التي لا ناقة له فيها ولا جمل ورندة حبيبته التي قرر الالتحاق بالحرب حتى يصبح لديه مال ويتزوجها تسلل المرض لجسدها وقتلها وهي في عز صباها.

على الرغم من بعض الأقلام التي انتقدت الرواية كونها العمل الروائي الأول لحنا مينا إلا أنها لم تكن رواية سهله بشخوصها الكثيرة وتؤرخ لفترة تاريخية مهمة ملقيةً الضوء على حياة أهل الساحل السوري في ذلك الزمن ويبدو أن حكايا الحروب متشابهة في كل زمان ومكان بنماذجها وإفرازاتها ونتائجها فما أكثر الذين حاربوا وماتوا في حروب ليست لهم وكم من فتاة انتظرت بكل الحب عودة فارسها من حربه “العبثية” وكم من أم جلست على الشواطئ وأمام المعابر متأملة برؤية وجه افتقدته.

اقرأ أيضاً: “أسمهان”.. أميرة الحب والحرب في الدراما والحياة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى