أخر الأخباررأي وتحليل

اللغة والهوية … كيف يهدد الاستعمار الفكري هوية الإنسان؟ ناجي سعيد

هل استخدام لغة أجنبية في الحديث يعني أنك مثقف ومتعلّم؟

تعلّمنا في المدرسة، أنّ الدول الكُبرى، استعمرت دولاً عربيّة صغيرة وأطلقت عليها مصطلح: “نامية”! بحجّة حثّها على النمو. وكان يسخر مُدرّس التاريخ حينها: كان قصدن يسمّوها “نايمة” مش نامية!

سناك سوري _ ناجي سعيد

وما لفتني من فكرة الاستعمار هو التفسير الذي قرأته لمصطلح “الاستعمار” في مورد المعاني الجامع.  «تسلّط أمّة على أمّة أخرى وتحكُّمها بفكرها وقيمها واقتصادها وقوتها العسكرية وسياستها العامة مع ادّعاء أنها تريد إعمارها».

ومن يتعمّق بالجانب الحقوقي القانوني، يُدرك تمامًا المعنى المُوجِع لكلمة “استعمار”. ففكرة سلبُ شعبٍ حقّه الجغرافي، يعني أنّ استهتارًا إنسانيًّا ارتكبهُ المُستعمِر، وذلك بسلبِ الحقوق لشعبٍ ما، هذا بالإضافة إلى سلخِ هذا الشعب عن سياقه التاريخي الذي يؤدّي إلى تدمير مسار التطوّر الحضاري. المرتبط باللغة والتقاليد والثقافة الشعبية. وهذا ما يؤثّر مباشرة على ما أودّ تناوله الآن في حديثي عن الهوية واللغة. 

الاستعمار هدفهُ سلبي بكل الأشكال. فمهما أفصحَ المُستعمرون عن نواياهم الخيّرة والطيّبة بأنهم يريدون تطوير وإعمار البلد المُستَعمَر. وحتّى لو رأى الناس مظاهر الإعمار، وهذا واضح للعيان، لكنّ ما لا تراه العين المُجرّدة، هو الثُقُب العميق الذي يَصعُب إصلاحه!

استعمار اللغة

وما أقصده هو الاستعمار الفكري/ الثقافي/ الأيديولوجي.. والمنتشر حتمًا من خلال نقل التقاليد والعادات الشعبية السائدة في البلد المُستَعمِر. ليسكن زوايا الشعب المُستَعمَر، وأهمّ هذه الزوايا الاستعماريّة، لغةٌ خالدة وممتدّة بدءًا من عصر الجاهليّة إلى الإسلام.

كلّ الحوارات التي تحدث بحضور الطفل، يلتقطها ويتمّ تخزينها في دماغه. ولو اعتقد الأهل بأنّه لا زال صغيراً ولا يفهم. إنّ ما ينقص الطفل هو جهاز النطق، الذي لم يكتمل نمّوه. فالدماغ لازال في طور التشكيل ناجي سعيد

 

ليست مبالغة منّي، حين أقول ذلك، فمن خلال بحثٍ أنجزته ضمن دراسة عن الهويّة. وجدتُ رابطًا قويًّا بين هويّة الإنسان ولغته. وأهمّية اللغة تظهر من خلال تسميتها: اللغة الأم.

فليس هناك مشكلة بإتقان لغات مغايرة، لكنّ المشكلة في الهويّة تبرز عند الذين لا يتقنون لغتهم الأُم. وليس مطلوبًا أن تضاهي لغويّين محترفين في اللغة العربية، ولكن أقلّه ألا تستخدم لغتين أو ثلاث لغات. أثناء حديثك اليومي مع الناس. وقد تصدّى لهذه المشكلة الفنّان “شربل روحانا” في أغنيته الشهيرة: “Hi، كيفك، Ca Va”. ولقد ضِفتُ عليها أنا باللغة الإيطالية: Ciao.!

وقد يسخر القارئ من الموضوع، ويعتبرني أبالغ بذلك. ما قرأته عن الهويّة أهمّيتها الكبيرة جدًّا لناحية ربطها باللغة الأم. فباللغة الإنكليزية يُطلق عليها : اللسان الأم أو Mother Tongue. وهذا الرابط ليس فقط من الناحية البيولوجيّة، لا بل تربويًّا بالتأكيد، فمصادر في علم النفس تؤكّد بأن منطقة اللاوعي تتشكّل عند الطفل من عمر صفر إلى سنتين.

وبالتالي كلّ الحوارات التي تحدث بحضور الطفل، يلتقطها ويتمّ تخزينها في دماغه. ولو اعتقد الأهل بأنّه لا زال صغيراً ولا يفهم. إنّما ينقص الطفل هو جهاز النطق، الذي لم يكتمل نمّوه. فالدماغ لازال في طور التشكيل. فالأهل ومن باب ” الفشخرة”، أي متابعة الموضة السائدة، والتكاذب، يحدّثون ابنهم/ابنتهم باللغة الإنكليزية: No Mom/ No dad، والإشكالية التي لم أجد نفسيرًا لها، أنّ الناس يخاطبون حيوانات أليفة يقومون بتربيتها باللغة الأنكليزية. فهل يفهم الكلب كلمة: Sit ولا يفهم لو طلبنا منه أن يجلس؟.

الخلل الوظيفي عند الطفل

إنّ استخدام لغة أجنبية في كلامك، يوحي للآخرين بأنّك مُثقّف ومتعلّم. وأودّ الآن أن أوضح ما قاله الفلاسفة عن الدماغ: ” عند لفظ أي مصطلح أمام الطفل، فإنّ دماغه يعمل على رسم صورة للكلمة في الدماغ. مثلاً: لو قلنا “كرسي” فدماغ الطفل يعمل على رسم صورة للكرسي.

حين كنتُ أدرّس ابن الجيران ذو السبع سنوات، وهو تلميذ مدرسة خاصّة تتبع منهاجًا انكليزيًّا، كان الخلل الوظيفي في دماغه واضح من خلال كتابته. فقد  كان يكتب اللغة العربية في درس الإملاء، من اليسار إلى اليمين! ناجي سعيد

 

وبالوقت نفسه، من خلال المنهاج الفرنسي، نعلّمه: Chaise ومعناها كرسي، فيعمل الدماغ على رسم صورة أخرى، وهنا الإرباك الذي يحدث في دماغ الطفل. رسم صورتين مختلفتين لشيءٍ واحد! هذا ما يُحدِث خللاً في انتظام عمليات وظائف الدماغ.

والمثال الذي واجهته بشكل مباشر: حين كنتُ أدرّس ابن الجيران ذو السبع سنوات، وهو تلميذ مدرسة خاصّة تتبع منهاجًا انكليزيًّا، كان الخلل الوظيفي في دماغه واضح من خلال كتابته. فقد  كان يكتب اللغة العربية في درس الإملاء، من اليسار إلى اليمين!

ويؤسفني جدًّا، أن يعتبر بأنّ هويته سليمة، لا بل عربية وإسلاميّة، ثمّ تسمع من المُجيب الآلي عند محاولة إتّصالك بأحد: For English press one، ولِلّغة العربيّة إضعط الرقم إثنين!! نعم فالقصور بإدراك معنى الهوية، يجعلنا نركض وراء الغرب المُتطوّر بلغته، فبحجّة التكنولوجيا، ارتأينا استبدال لغات المصنع بلغتنا. ولست داعية للعروبة والمبالغة فيها، فأنا أعمل مع جمعية ألمانية ونتحدّث الإنكليزية لنتواصل. اللغة الأجنبية للتواصل فقط، وحين أودّ التعبير عن موضوع له علاقة بقيمة أو موقف ما، أطلب التعبير بلغتي الأم، ليترجموا بعد ذلك.

إنّ تطوّر الإنسان إمّا أن يمشي بشكل أفقي وإمّا عمودي، وما أراه عند البعض هو حِرصِهم على إتقان لغة أجنبية أو أكثر، مُعتقدين بأن التطوّر بالشخصية يسير بشكل أفقي. فالرحلة تكون سطحية لمعرفة اللغات، فقط ليتمكّنوا من التواصل السطحي مع أي “سائح” أجنبي.  فتصبح معرفتهم باللغة الأمّ، تشبه معرفة “طارق بومالحة” حين يسألوه لو كان يعرف الإمبريالية. فيجيب:«يعني بعرف من كل شي شوي، بس مش باحرها منيح!». الثقافة السياحية، تضرب الهويّة من ناحية اللغة، ليتم تجويف الهويّة، فتصبح مزركشة بلغة: Hi، كيفك، CaVa!!!

 

زر الذهاب إلى الأعلى