الرئيسيةشباب ومجتمع

سوريا.. أبواب أغلقت وبيوت هجرت وأصبحت ملاذاً للغرباء

حكاية السيدة الجميلة التي أخبرتنا الطيور بموتها وحين وصلنا كانت الطيور على حق

سناك سوري – عمرو مجدح 

“هالأرض كلها بيوت يا رب خليها مزينة ببواب / ولا يحزن ولا بيت ولا يتسكر باب”، هكذا غنت “فيروز” بكلمات تختزل الكثير من حكايا الأبواب التي تخفي خلفها قصصا وروايات عن أسر خطف منها الزمن الدفء، وشتت أبناءها، وأغلقت الأبواب على صدى ضحكات وأوجاع كانت يوماً هنا.

قيل قديماً :«لا تزر بيتاً مات أهله فالبيوت تموت بموت أصحابها»، والحاضر أبى إلا أن يترك لنا أقسى أنواع الصور حتى بات المرء يعتاد ويألفها ويكاد يصادقها، بيوت تحسب أن الزمان نسيها، بنايات أكلها سواد القذائف والبارود يسرق بياضها، ليالي الحرب تركت بصمات جنون رصاصها على الجدران، منازل تبكي حجارتها من هجرها وأخرى تناجي النازحين “عودوا” وبيوت يفوح منها عبق الياسمين وهو يتسلق جدرانها وخلف بابها “مسن” أحنت السنين ظهره بينما تركه الأحباء وحيداً يصارع ما تبقى من العمر.

لم تعلم “وداد” ٥٦ عاماً عندما قدمت من “القاهرة” لتزور مدينتها “حلب” العام الماضي في إجازة قصيرة، وطالت بسبب جائحة كورونا أنها ستكون على موعد مع مقتحمين غرباء، وهي تتفقد منزل شقيقتها المغتربة، الذي أغلقت أبوابه من سنين بحي “الأشرفية” الحلبي، تقول، وتضيف لسناك سوري: «عندما فتح الباب فوجئت وابني بشخص غريب تخفي ظلمة المكان وجهه بسبب قطع الكهرباء حاولت التعرف على ملامحه عبثاً صحت فوراً من أنت؟ وكيف دخلت إلى هنا؟ فأجاب بلسان متلعثم: “أنا خالتي أم علي كانت ساكنة في البيت” وباستغراب سألته مين خالتك أم علي؟ كانت أجوبته مرتبكة وغير مفهومة يقول أن خالته كانت مستأجرة ولا يعلم ملاك الدار وأشارت عليه قبل سفرها وزوجها إلى “لبنان” بالسكن في البيت»، وقال لي أنه “يتيم وقت اجيت لاتجوز قعدت هون مشان ما استأجر قالتلي خالتي اسكن بهالبيت قريب عشغلك”!».

اقرأ أيضاً: “الرقة”.. حكاية أول مدينة سورية تسيطر عليها فصائل مسلحة

تضيف “وداد”: «كان شاباً يبدو في منتصف العشرين بذقن حمراء أخبرني أنه نازح يعمل خياطاً يعيش في البيت منذ ستة شهور مع زوجته سألته إذا كان يدفع آجار لأحدهم وأجاب بالنفي، وعن والديه قال أن والده متوفي ووالدته بالسجن رغم الشكوك حول تفاصيل الرواية وغموض الشخصية المقتحمة للبيت كان قلبي يبكي حزناً على أبناء شعبنا فهناك حقيقة أكيدة أن هذا الغريب مثل الكثيرين من الذين أصبح الجلوس تحت سقف آمن حلماً بالنسبة لهم. لم أمتلك شجاعة طرده أو أن أنهال عليه بالشتائم وأستعين بالشرطة اتفقت معه على مهله للبقاء لحين ظهور الشاري فشقيقتي عازمة على بيع المنزل».

ما مر ذكرك إلا وابتسمت له /كأنك العيد والباقون أيام/ أو حام طيفك إلا طرت أتبعه / أنت الحقيقة والجلاس أوهام. كانت هذه الأبيات الشعرية التي جالت في نفس “ظافر” ٢٥ عاماً، وهو على طريق “حلب” وينظر إلى الطرف الآخر منه الذي يؤدي نحو بيته في محافظة “إدلب” الذي غادره مع أهله منذ 2012 يقول لسناك سوري: «أغلب البيوت سرقت والتي لم تنهب أصبحت للمسلحين وأقربائهم، عندما نزحنا في المرة الأولى أخذنا معنا الأغراض الضرورية وفي المرة الثانية لم نأخذ شيئا وإلى اليوم رغم مرور وقت طويل مازلنا نتذكر بعض ماسرق منا بحزن من كمبيوترات وأدوات كهربائية، ليس بالضرورة أن تكون كلها أشياء غالية الثمن من أيام كانت أمي تعد طبخة وتذكرت طنجرة الضغط الأصلية التي كانت تمتلكها والأطباق الجديدة التي اشترتها ولم تستعملها وقارنت كل ما كان لديها بالموجود حاليا وحزنت».

وعن إذا كان ما يزال يحن إلى البيت يقول: «حقيقة لا أعرف إجابة محددة على هذا السؤال هناك مشاعر مختلطة لكن أعرف أني قضيت الجزء الواعي من عمري، خارج بيتي متنقلاً من بيت إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى. زرنا البيت مؤخراً كان فارغاً إلا من أوراق مبعثرة وبعض الكتب على الأرض وملابس ممزقة “هكذا أصبح بيتنا” لا أظن أننا سنعود للاستقرار فيه مجدداً».

في سنوات الفوضى وليل القذائف التي اجتاحت مدينة “حلب”، يتذكر “محمد” ٣٠ عاماً يوم تركت خالته وعائلتها منزلهم الذي كان قريباً من نقاط التماس ونزحوا مع عدة عوائل إلى مناطق أكثر أماناً وعندما هدأت الأوضاع وعادوا لتفقد أضرار البيت، ومدى الخراب الذي حل به تفاجأوا بالشخص الغريب وقد احتل الدار وتمدد على “كنباية” الصالون لم يكن مسلحاً ولا إرهابياً كان مشردا بسيطا من هؤلاء الذين يعيشون على هامش الحياة باحثاً عن ملجأ يلوذ إليه.

اقرأ أيضاً: تدمير منازل واحتراق سيارات خلال اشتباكات في ريف حمص

لا تغيب عن الشاب الحلبي حكاية الجارة العجوز التي يصفها بالمحبة للحيوانات الألفية والطيور، والتي تعود أهالي الحي على رؤيتها في كل صباح وهي تنثر الخبز والبرغل لتطعم زوار شرفتها من الحمام يقول لسناك سوري: «كانت تعيش وحيدة على الرغم من أنها أم لشابين أحدهما في “تركيا” والآخر يزورها من حين لآخر كانت عندما يأتي ابنها بعد كل غيبة تنزل المرأة السبعينية الأدوار الثلاثة بلهفة مراهقة لتفتح له الباب الحديدي أسفل البناية ولا أعلم لماذا لم يمتلك ابنها حتى مفتاح بيتها!».

ويتابع: «في إحدى الأيام لاحظ أهالي الحي غياب العجوز عن شرفتها بينما الطيور تنتظر يدها الحانية، التي تعودت إطعامهم كان منظر تلك الطيور الحائمة حول المكان لأيام واختفاء المسنة، إشارة جعلت أبناء الحي يتواصلون مع ابنها الذي حاول الاتصال بها ولم تجب فطلب مني بحكم أني أسكن في الطابق تحتها، فتح الباب الحديدي وبعده وصلنا إلى باب بيتها وبدأ ابنها بالطرق ومناداتها بلا مجيب لم يكن أمامنا سوى خلع الباب، وجدناها ممدده على الكرسي وقد فارقت روحها جسدها وهي ترتدي أجمل ملابسها بدت كأنها هيأت نفسها للخروج. سمعت الكثير عن حوادث من هذا النوع في السنوات الأخيرة بعدما هاجر العديد من الشباب تاركين خلفهم كبار السن قد تبدو حكاية عادية نسمع مثلها العشرات في ظل المأسي التي نعيشها إلا أنها تركت أثراً كبيراً في نفسي».

اقرأ أيضاً: ماذا تفعلون لو عاد الزمن بكم.. سوري مغترب: كنت بقيت بالشام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى