محرقة الفيسبوك – أيهم محمود

من يستطيع النجاة في الفضاء الرقمي العام أحد اثنين …!
سناك سوري-أيهم محمود
أذكر في بدايات الحرب السورية أني تعبت قليلاً من وقائعها وأحداثها، شعرتُ ببعض اليأس والحزن، ثم عبّرتُ عن هذا الأمر بمنشور قصير على صفحتي، كانت بعض الردود مفاجئةً لي، عبّر بعضها بوضوح شديد عن الأثر السلبي الذي تركته كلماتي في نفوسهم، كان معنى مداخلاتهم واضحاً لي: “ليس من حقي أن أقف في لحظةٍ حرجة من مخاضٍ قاسي، في مجتمع لأعبر عن يأسي الشخصي أو عن تراجعٍ في مقاومتي لما يجري فيه من أحداث”.
لم تعد كلماتي ملكاً لي، لم أعد حراً في الحزن والغضب وفي الانهيار، عندما تقوم بقصدٍ أو دون قصد مباشر منك بتقمص دور دعامة -ولو كانت صغيرةً وموضعية- لبعض السقف ليس مسموحاً لك أن تنهار، آثار انهيارك لم تعد فردية!.
لم يكن عدد الأصدقاء والمتابعين لصفحتي يصل إلى ثلث الرقم الحالي، بعض الأصدقاء في الفضاء الرقمي لديهم أضعاف مضاعفة من المتابعين والمهتمين بنشاطهم، رأيت انهيار البعض منهم، لم يكن مشهداً أستطيع نسيانه بسهولة، خطأٌ واحد ويزول السحر فجأة ليصبح الاستثنائيُ عادياً دون أي أملٍ له بالرجوع مرةً أخرى إلى المكانة التي كانت لديه.
اقرأ أيضاً: هل سمعتم يوماً بحروب سعاد وسليم؟ – أيهم محمود
المجتمع الرقمي مكانٌ خطرٌ على الأفراد الساعين إلى الشهرة فيه، وعلى الأفراد الذين يعبّرون عن مواقف انفعالية ذاتية لا تستندُ إلى هويةٍ ثقافية واجتماعية واضحة، بل وصارمة أيضاً، في المجتمعات الواقعية هناك الغفران وهناك النسيان وهو فضيلةٌ بشرية، في المجتمعات الرقمية لا مجال للنسيان، كل أفعالنا وردود أفعالنا لسنوات طويلة مسجلة في قاعدة بيانات عالمية، أو في أرشيف شخصٍ ما يتابعنا دون أن نعرف حتى اسمه، يتابعنا حباً أو كرهاً أو بحثاً عن انتقام.
من يستطيع النجاة في الفضاء الرقمي العام أحد اثنين: أولهما، من ينطق انطلاقاً من قناعاتٍ ثابتة مستقرة مهما بدت صغيرة الحجم وتافهة للبعض، وثانيهما، من يستطيع إعلان أنه بشر، تتغير مواقفه مع تغير المعطيات التي تصل إلى وعيه، وهو لا يخجل من مواجهة الجموع بذلك، شرط أن يكون التغيير في مواقفه متسلسلاً ومنطقياً، وليس عبارةً عن قفز بهلوان بين المتناقضات والمواقف التي لا تقاطع بينها.
من يخرج من نطاق الفردي إلى نطاق الشخصيات العامة -مهما كان عدد المتابعين له متواضعاً- لا يحق له اللعب بآمال البشر وبتوقعاتهم عنه، ليس من حق أحد هنا أن يحترق أو ينتحر بعد أن سعى جاهداً ليصبح شخصيةً عامة.
اقرأ أيضاً: هل يواجَه الغزو الأميركي بالانعزال الثقافي؟ – أيهم محمود
يدخل الجميع سعداء إلى دوامة الشهرة، الشهرة خمرٌ بالغ الخطورة لمن لا يعرف ضريبته، ولمن لا يعرف الطرق الآمنة للتعامل معه، قد تجرفك الجموع إلى حيث لا ترغب، وقد تحطمك وتحطم كامل تاريخك بضربةٍ واحدة، ستجد بين متابعيك أعداءَ لا تعرفهم، وستجد أيضاً بينهم عشرات الأشخاص الذين يُلبسوك أوهامهم وأحلامهم، إن منحت الأمل للبعض سيجذبك سحر الطريق، لن تستطيع مقاومة إغواء إرادتهم، كما لن يستطيعوا هم مقاومة إغواء تحطيمك إن قررت في لحظةٍ ما التوقف عن اللعب!.
العالم الرقمي مكانٌ جادٌ وحقيقي ربما أكثر بكثير من العوالم الواقعية، كثيرٌ من الأشخاص عبر التاريخ الطويل للبشرية ذهبوا إلى حتفهم لأن ما رسموه للناس من صور صار أكبر منهم وأكبر من قدرتهم على التراجع عنه، عندما تنتشي بإعجابهم يأخذوك هم إلى مواقفهم ليمسحوا شخصيتك وقرارك المستقل، أنت تكتب فقط ما يريدون، تكتب ما يطربهم وليس ما يجب عليك -وعياً وإدراكاً- أن تقول، إن تراجعت عما يريدون منك سحقوك وحولوك إلى شيء لم يكن، أما إن كنت وعياً وإرادةً مستقلةً عنهم سيقل حتماً عدد المعجبين بما تقول حتى لو تابعوك، هذا الأمر لا يتحمله البعض فهم ليسوا مستعدين بعد للتخلي عن إدمان عدد الموافقين على ما يقولون.
شاهدت بعيني في الفضاء الرقمي تراجعات مخزية لعدد مهم من الأشخاص في السنوات الماضية، شاهدت صعودهم الصاروخي مثل شهابٍ أضاء السماء حوله دون أن يعرف المشاهدون له أنه يحترق بشدة وأنه مقتربٌ بسرعةٍ من الفناء النهائي والأبدي، دون أن يعرف هو -وهم معه أيضاً- أن النجوم الباهتة التي أخفاها حضوره الناري ستبقى وحدها من ينير درب المبحرين التائهين في البحور المظلمة لآفاق تطور الوعي البشري.
اقرأ أيضاً: ثقافة تقبيل اليد – أيهم محمود