الرئيسيةرأي وتحليل

تهنئة قلبية صادقة للدب السوري في عيد ميلاد انقراضه – أيهم محمود

لا مؤامرات خارجية هنا بل هي أخلاقٌ انحدرت حتى بلغت حضيض الحضيض

ذهبت من المدينة إلى قريتي، مازال أكثر من نصف ثمار “المراب” (العرموط) على الشجرة، عندما وصلت لم أجد عليها شيئاً، التقيت مع ابنة عمتي قبل بضعة أيام، كنت أحمل جزءاً من الثمار فأخبرتني أن شجرتهم قد سُرقت، على الأقل حالفني الحظ هذا العام في تذوق طعم إنتاج بستاني من المراب، في العام الماضي لم أعرف طعم الإجاص الذي زرعه والدي، وأنا لا أملك منه سوى شجرتين صغيرتين فقط بطولي تقريباً، في أول موسم عطاء لهما كان إنتاجهما للصوص وليس لمن زرعهما واعتنى بهما.

سناك سوري-أيهم محمود

أين هو الدب السوري في هذه المسألة، كان الدب السوري الذي يقال إنه انقرض نتيجة لقتله وتدمير بيئته الطبيعية من عشاق “المراب” وكان يساهم أيضاً بنشر بذوره، انقرض هذا الدب من المنطقة، قبل أن يرى تلك الجبال الخيّرة وقد قُطعت أشجارها أو أُحرقت، وقبل أن يرى أن الشجر الذي يحبه ويحب ثماره لم يعد له، ولا لمن زرعه أيضاً.

عدت من القرية مباشرةً إلى سوق الخضار، كانت كميات ضخمة من المراب في السوق، هذا هو موسم نضجه، وقفت أمام الباعة أتأمل فيها، هل هذه الثمار من شجرة ابنة العمة، أم هي من شجرتي؟ أم أن اللص باع ما سرقه في منطقةٍ أخرى؟ كم شجرةٍ سُرقت؟ وكم هي نسبة المسروقات في المواد التي نشتريها يومياً من الأسواق؟.

في العام الماضي عاد شخص أعرفه جيداً إلى بستانه لجني آخر وأكبر شجرة زيتون فيه فلم ير الشجرة ولا رأى ثمارها، قطعوها وأخذوها بما تحمله.

لم تعد اللصوصية ظاهرةً شاذة، بل أصبحت ثقافةً عامة لها تبريراتها، في بداية الاضطراب السوري، وقبل أن تتصاعد لغة العنف ولغة السلاح، التقى جاران في العقد الخامس من عمرهما، عاشا في بيتين متجاورين منذ طفولتهما، قال أحدهما للآخر سنأخذ بيتك منك!، سيكون غنيمةً لنا، فيما بعد ومع زيادة حدة المعارك زادت حدة السرقات، من اشتكى من التعفيش، خرس أمام كلمة غنائم باعتبارها سرقة حلال مقابل سرقة إجرامية يجب إدانتها، والعكس صحيح أيضاً.

اقرأ أيضاً: السياحة إلى جهنم – أيهم محمود

كل أنواع الفساد المنتشرة في بيئتنا لها مبرراتها القوية في الثقافة الجمعية، التاجر الذي يشتكي من مبالغ الرشوة التي عليه دفعها ويتذمر بل ويشجب الفساد، هو نفسه الذي يحتكر البضائع ويستغل حاجة الناس في زمن الحصار والحرب، الاختصار العام لكل الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا المجال والتي هي أكثر وأكبر من أن تُحصى: “حلالٌ” لنا ما نفعله من جرائم بحق الآخرين، لكن “العار كل العار” إن فعلها أحدٌ غيرنا.

تتصارع الأحزاب السياسية والتيارات الاجتماعية فيما بينها، كلٌ يُحمِّل الآخر تبعية الفساد والإفساد، أو تبعية السرقات والتطرف، لم يجرؤ أي واحدٍ منهم على توصيف المشكلة الحقيقية، الفساد واللصوصية أصبحت ثقافة عامة في مجتمعنا المريض بشدة، قبل ثلاثين عاماً أو أكثر كانت أدواتنا الزراعية موضوعة في أشجار البساتين، تظل لسنوات ولا تمتد لها يد أحد، ثم انهارت هذه الصورة قبل الحرب وقبل الجوع بكثير.

لا نبالغ إن قلنا إن الحرب هي أحد نتائج هذا الانهيار الكبير وليس العكس، على الأحزاب السياسية، وعلى كل القوى الاجتماعية المتصارعة فيما بينها، الاعتراف بأن الفساد أصبح ثقافةً عامة وليس مجرد حالات عابرة شاذة، أول العلاج هو الاعتراف به وبحجمه وبمدى خطورته، أول العلاج طرح عقد اجتماعي جديد يدين كل أنواع الفساد وكل أشكاله وتحولاته، ولا يُقسّمه إلى: غنائم مشروعة، وتعفيشٍ مكروه.

لا نبالغ إن قلنا ان الحرب هي أحد نتائج هذا الانهيار الكبير وليس العكس

من يسرق المحاصيل من بساتين القرى ليس غريباً عن المنطقة، بل هو من أهلها، يعرف مواعيد نضج الثمار، يعرف موقع كل شجرة فيها، ويعلم أيضاً توقيت زيارة أصحاب البساتين والحقول لأملاكهم، على الأغلب هو يملك أرضاً أيضا، لكن زراعة الأشجار المثمرة تحتاج إلى زمن طويل، والعناية بها تمتد سنوات عمرها كلها، لذلك السرقة أسهل بكثير، نصف ساعة فقط هي أكثر من كافية لاختصار جهد عام كامل من العناية بالشجرة حتى موعد طرحها الثمار، أليست هذه ذاتها ثقافة من يرتشي، ومن يحتكر، ومن يسرق، ومن يبيع آخر أمل وآخر ضمير؟.

لذلك نبارك للدب السوري انقراضه العظيم، فَاتَ قلبه، وقلب سلالته التي لم تأتِ من بعده، كل هذا الحزن، وكل هذا القهر، على بلاد الخير وهي تدمر نفسها بنفسها، لا مؤامرات خارجية هنا، بل هي أخلاقٌ انحدرت حتى بلغت حضيض الحضيض.
ألف مبروك يا غالي، ألف مبروك يا دب … انقراضك العظيم.

اقرأ أيضاً: الحب المشروط في نتائج امتحان البكالوريا السورية – أيهم محمود

زر الذهاب إلى الأعلى