الرئيسيةرأي وتحليل

الوباء الطائفي نفسه في صيغةٍ عكسية – أيهم محمود

تفكيك خطاب الكراهية أول مهام المثقف الحقيقي الذي يحترم حق الإنسان في التفرد

سناك سوري-أيهم محمود

تملك المادة المضادة المتخيلة في الفيزياء خصائص عكسية تناقض خصائص المادة التي نعرفها، حين تلتقي المادتان تفنيان لتتحولا إلى طاقة هائلة مدمرة، هذه الكلمة الأخيرة تصف بدقة ما حدث ويحدث في ثقافة مجتمعاتنا حين اجتمعت فيها الطائفية والطائفية المضادة، طائفية مضادة: مصطلحٌ أولي أحاول تلمس معالمه في هذه السطور آملاً في إثارة شهية المختصين لدراسة هذه الظاهرة الثقافية القاتلة.

شاهدنا في بدايات الأزمة السورية نكوص كثيرٍ من المثقفين المزمنين باتجاه العودة إلى استخدام المفاهيم القبلية والعنصرية، كان انهيارهم قاسياً على نفوسنا فهم كانوا من الركائز المهمة التي اعتمد عليها الكثيرون -وأنا منهم- في بناء شخصيته العامة والخاصة، عاد أساتذتنا إلى مكونات انتمائهم العنصري بحكم الولادة البيولوجية ليستخدموا مصطلحات مخجلة ومدمرة زادت في شروخ المجتمع بعد منحهم الضوء الأخضر للمكونات المرضية فيه للتحرك وهضم ما تم إنجازه سابقاً في مفهوم الدولة ومفهوم الوطن ومفهوم الانتماء الإنساني بشكل عام.

لم يعد التصالح مع هؤلاء المثقفين العنصريين على اختلاف مكوناتهم المناطقية والقبلية مسألةً شخصية، التصالح معهم ومع حدث انهيارهم القاتل خيانةٌ لملايين المتضررين حالياً ولمئات الأجيال التي ستضرر لاحقاً من السم الذي زرعوه في مجتمعاتنا، من حق الأجيال الحالية واللاحقة في هذه المنطقة أن تعيش في كياناتٍ جامعة تحترم إنسانية وخصوصية أفرادها، تعرية ظاهرة انهيار النخب الثقافية -وليس تعرية أسماء أفرادها وأسماء انتماءاتهم العنصرية- واجبٌ إنساني وثقافي وحضاري لا يجب الهروب والاختباء منه خلف ظلال تصوير البعض له أنه حوادث متفرقة وشاذة، أو حوادث تخص مجموعات سكانية محددة فقط دون غيرها.

اقرأ أيضاً: الشيوعية والتدين الشكلي -أيهم محمود

من حق الأجيال الحالية واللاحقة في هذه المنطقة أن تعيش في كياناتٍ جامعة تحترم إنسانية وخصوصية أفرادها أيهم محمود

لن أسمي في هذا النص أسماء الطوائف فما زلت حتى هذه اللحظة أخجل من ذكرها، ولا أعلم كيف استطاع البعض الثقافي إطلاق أحكامٍ قطعية معممة -إيجابية كانت أم سلبية- على الملايين من أفراد المجتمع في عملية سحقٍ كامل لخصوصيتهم الفردية ولوعيهم الذاتي وحقهم الإنساني في اعتراف المجتمع بشخصية أفراده المستقلة و الواعية.

سأتحدث باختصار عن مثالين ينتميان لمجتمعنا السوري دون ذكر أسمائهما وذكر انتمائهما الطائفي المحكوم بحدث الولادة وليس بحدث الاعتقاد الاختياري، الأمثلة كثيرة وهي أكبر من أن تحصى للأسف الشديد، لذلك يجب التركيز على الظاهرة وليس على الأسماء في أي دراسة مستقبلية لها.

تقول شخصيةٌ في مثالنا الأول: “أن منازل وأحياء هذه الفئة الدينية السورية كانت دوماً نظيفةً ومرتبة فهم أهل حضارة ورقي”.

قد يبدو كلام هذه الشخصية التي صعدت على منابر الإعلام الغربي وبعض المحلي جميلاً ومتسامحاً وخاصةً أنه صدر من لسانٍ يختلف في الولادة الدينية عن انتماء من تم توجيه محتوى كلامها لهم، لكن الواقع عكس ذلك تماماً، الجانب الآخر المظلم للنص يعني ضمناً أن أحياء بقية المكونات الاجتماعية السورية قذرة وغير مرتبة، وأنهم ليسوا أهل حضارة وأعتذر عن إكمال بقية الوصف الذي ينضح به عكس نصها السام والقاتل، وصف القذارة الجسدية قاسمٌ مشترك في كل تلاوين الخطابات العنصرية، “فالقذارة وعدم النظافة سمة أصحاب البشرة السوداء، وسمة المجتمعات التي تكفر بأدياننا وأصنامنا، صفة أعدائنا، وصف القذارة عنوانٌ رئيسي في خطاب الكراهية للتيارات الثقافية القاتلة”، هذا النص بغيضٌ وعنصريٌ حتى النخاع، لا يختلف عن خطاب الكراهية المنطلق من الذين يكفّرون الآخرين المولودين بيولوجياً في مكوناتٍ دينية وقبلية ومناطقية تختلف عن انتمائهم الشخصي.

في المثال الثاني شخصيةٌ سورية أخرى احتارت بحثاً وتدقيقاً في اختيار اسم الطائفة التي يمكن اعتبارها المكون الأصيل للسوريين، في كل مرة تخرج من هذه الشخصية اسم طائفة ما تختلف عن طائفة مولدها لذلك تعتبر نفسها علمانية ومنفتحة! رغم أنها تفعل كما يفعل بقية العنصريين في العالم كله: إطلاق الأحكام القطعية على الملايين وسحق كل وجود للهوية الإنسانية الفردية، هو وسم القطيع قسراً وإكراهاً بدمغةٍ ثابتة بواسطة الحرق، سمةٌ أبدية لا تغيير لها ولا تراجع عنها، هذه هي العنصرية البغيضة في أسوأ أشكالها وتجلياتها.

تستحق ظاهرة الطائفية المضادة في مجتمعاتنا المزيد من الدراسة والمزيد من التعرية أيهم محمود

اقرأ أيضاً: كل سوري مشروعُ مدان حتى وهو جنين في بطن أمه – أيهم محمود

ألم يكن الفكر النازي ينطلق من هذا الميل المرضي للتعميم؟، ألم يكن هذا التعميم السام ركيزة العنصريين البيض لاستغلال أصحاب البشرة السوداء؟، هذا السلوك الثقافي الشائن والمخزي يرتكز على وعيٍ مزيف يبحث عن الشهرة دون أن يهتم بعدد ضحاياها أو يهتم لآثاره السامة والقاتلة في المجتمعات التي يحيا فيها وفي المجتمعات المحيطة به أيضاً، لا يختلف الخطاب في المثالين السابقين عن خطاب العنصريين البيض ولا عن خطاب العنصريين السود في حال قرروا تبني خطاب معكوس تجاه أصحاب البشرة البيضاء، ولايختلف أيضاً عن خطابٍ تخيلي لصاحب بشرةٍ بيضاء انشق عن ثقافته فمدح أصحاب البشرة السوداء وحكم بالتفاهة على أصحاب البشرة البيضاء، كل هذه المقاربات المختلفة عنصرية سامة وقاتلة وهي ليست ثقافة مهما كانت كلماتها براقة ولامعة.

تستحق ظاهرة الطائفية المضادة في مجتمعاتنا المزيد من الدراسة والمزيد من التعرية، فهي نتاج وعيٍ زائف تسبب في تخدير الكثيرين ومزج السم بالعسل مما سهل مروره حتى لدى مثقفين مهمين في مجتمعنا، إطلاق الأحكام العنصرية القطعية هو تعميق وتكريس للمرض الطائفي المتفشي في مجتمعنا وليس علاجاً له، تفكيك خطاب الكراهية أول مهام المثقف الحقيقي الذي يحترم حق الإنسان في التفرد وفي أن يملك شخصيته المستقلة المتمايزة عن هوية القطيع البشري الذي وجد نفسه فيه بحكم الولادة فقط .

اقرأ أيضاً: القضاء على المهن الهندسية بخبرات وطنية – أيهم محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى